بات واضحاً جدّاً أن روسيا وإيران والنظام السوري قد وضعوا كافة أوراقهم على طاولة معركة حلب.
نشرت روسيا ثلاثة آلاف من جنودها حول المدينة، واستدعت طائرات مقاتلة جديدة فيما قامت إيران وحلفاؤها، بمن فيهم «حزب الله» وميليشيات عراقية عديدة، بالتحشيد والتعبئة والتجهّز، واستدعى النظام قوّاته متجاهلا هجمات المعارضة السورية المسلّحة لإشغاله في ريفي حماه ودمشق، واستكمل حصاره لشرق المدينة بعد استعادته منطقة الراموسة والكليات العسكرية فيها، وصبّ الجميع نيرانهم جوّاً وأرضاً، مع استهداف للمستشفيات الميدانية والمخابز ومحطات المياه بحيث يحوّل حياة السكّان والمقاتلين إلى جحيم كامل لا مخرج منه إلا بالسيناريو الذي صار معتاداً: إجلاء المقاتلين بأسلحتهم العاديّة ثم الاستيلاء على المناطق التي خرجوا منها.
غير أن الاستيلاء على شرق حلب لا يشبه بحال ما حصل في داريّا، البلدة الصغيرة التي ظلّت لسنوات عاصية على قوّات النظام، وأهمّيتها تتجاوز أهميّة مضايا والزبداني، الضروريتين لاستكمال مشروع «حزب الله» وإيران لتغيير الديمغرافيا السورية، أو حيّ الوعر الذي تكدّس فيه نازحو حمص بعد تدميرها، فحلب هي المدينة الأكبر بعد دمشق.
سقوط حلب سيكسر التوازن السلبيّ الذي كانت الولايات المتحدة الأمريكية تحرص على استمراره إما بمنع التسليح النوعيّ للمعارضة والضغط عليها كلّما شكّلت خطراً على دمشق أو اللاذقية (التي تتركز فيها حاضنة النظام الاجتماعية)، أو بتفويض روسيا شؤون لجم طموحات النظام وإيران والتزام حيثيات اللعبة الدبلوماسية والعسكرية التي يديرها العملاقان.
العامل الأساسيّ في اندفاع روسيا لكسر التوازن لصالحها هو تيقنها الأكيد من أن الولايات المتحدة الأمريكية تحت إدارة الرئيس باراك أوباما لا ترغب إطلاقاً في استخدام الوسائل العسكرية لمجابهة روسيا وإيران والنظام، كما أنها غير مقتنعة بتطوير قدرات المعارضة السورية «المعتدلة»، أو بالسماح لحلفائها العرب، بمدّها عسكريا لمواجهة الهجوم الكبير عليها من قبل روسيا وإيران وأدواتهما، بما فيها ما تبقى من النظام السوري والميليشيات التابعة له.
تبدو هذه اللحظة تعبيراً هائلاً عن شخصيتي وإدارتي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي أعاد ترتيب شؤون شرعيّة انتخابيّة جديدة بعد «الفوز» القويّ لحزبه في انتخابات البرلمان الروسي (الدوما) مؤخّراً وانطلق لتسجيل انتصاره المدوّي في سوريا، والرئيس الأمريكي باراك أوباما صاحب جائزة «نوبل» للسلام، الذي يريد الخروج من التاريخ بـ»سلام» ومن دون حروب دمويّة كبيرة، كما فعل العديد من أسلافه، وبالأخص جورج دبليو بوش، في أفغانستان والعراق.
المفارقة الكبرى هي أن استنكاف أوباما عن خوض معركة كبرى مع روسيا، وتركيزه كل جهوده على كسب إيران، وقبلها خططه الفاشلة في الانسحاب من أفغانستان والعراق، وسجلّه في القتل «النظيف» بطائرات «الدرون»، والعمليات العسكرية النخبوية (كما حصل في اغتيال وإخفاء جثة أسامة بن لادن) فعل أكثر بكثير مما فعله بوش الابن فقد وسّع انتشار دائرة الموت والخراب والإرهاب من أفغانستان والعراق وسوريا إلى كافّة أنحاء العالم، ووطّد أركان أنظمة الاستبداد، بدءاً من روسيا التي انفتحت شهيّتها، من دون أي رادع حقيقي، للتوسع من شبه جزيرة القرم إلى شرق أوكرانيا وها هي الآن تضع حساباتها الاستراتيجية للسيطرة على الشرق الأوسط انطلاقاً من سوريا.
إذا تحقق هذا السيناريو فإن أمريكا وأوروبا والمنطقة العربية ستواجه سؤالاً كبيرا هو: ما هي خطوة بوتين التالية؟
القدس العربي