«ما جدوى الكتابة»؟ سؤال يتردد في أعماقي مرارا، وأنا أتابع ما يجري بين الفينة والأخرى، على ما يقع في الوطن العربي، لأني صرت بصراحة غير قادر على مواكبة جديد الأخبار والصور. إنك لا ترى إلا أقصى أنواع العنف والتدمير، مما يدفعك للتساؤل: هل الذين يأتون بهذه الأفعال بشر؟ إذا كنا نتفق جميعا على أن «الدواعش» وحوش وبرابرة، وأنهم لا يتورعون عن القتل والتقتيل، والصور التي رأيناها لهم وهم يقطعون الرؤوس بدم بارد، دالة على وحشيتهم، فماذا يمكن أن نقول عن بشار وزبانيته، وعن الجيش الروسي الذي يقوم بما هو أشنع وأفظع، بما يمتلكه من ترسانة عسكرية، لا تبقي ولا تذر، تخرب الأحياء حيا، حيا، وتفجر المستشفيات؟ أيمكن أن نقول عن هؤلاء بأنهم يحاربون الإرهاب والدواعش؟ وهل محاربة الدواعش تقضي بتقتيل كل من على الأرض ومن فيها، والتنكيل بكل من يشاركهم إياها، من المدنيين والأبرياء؟ أليس هؤلاء أشد على الإنسانية من كل الدكتاتوريات التي مرت على الأرض؟ وها حلب الشهباء شاهدة على ما نقول.
إن متابعة أفلام الرعب والأحداث العنيفة، وأفلام نهايات العالم، أكثر هونا على من يُحذَّرون في بداية الشريط على أن في الفيلم مشاهد قوية، ولا يمكن تحملها لما فيها من مناظر حساسة، بالقياس إلى ما يجري على أرض سوريا، بصورة عامة، وعلى حلب، بصورة خاصة. إن رؤية بعض الصور المقدمة من حلب أكثر واقعية وفظاعة من الخيال الذي نراه في السينما، وهو يقدم إلينا بخدع سينمائية، ومؤثرات فنية. أو ليس الواقع أكثر غرابة وعنفا من الخيال؟ وحين تبدو لك سماء حلب سوداء داكنة السواد، وآثار البنايات المنهارة والمدمرة بشكل همجي لا يمكن للكواببس إلا أن تنهال عليك، وأنت تتصور الحلبيين والسوريين كيف يعيشون هذا الرُّهاب القاتل. ومع ذلك ترى القتلة من النظامين الروسي والسوري ينددون بالإرهاب، ويدعون أنهم سيواصلون الحرب على الإرهاب. ولم يبق الحديث مخاتلا، كما في البداية، عن داعش، ولكنه صار صريحا عن المعارضة المسلحة والشعبية.
ألم تكف كل هذه السنوات بشارا، وهو يذبح شعبه بلا هوادة؟ حتى الهدنة التي يتفاوض بشأنها الشرق والغرب، ويلتقيان بشأنها، صارا يختلفان بصددها، وهي لا ترقى إلى مستوى ما يمكن أن يتم النقاش حوله، وهو إنهاء الحرب؟ أليس هذا تعبيرا عن رغبة أكيدة في استمرار تدمير ما بقي من سوريا من لدن العالم أجمع؟ ألا تقوم روسيا، الآن، في سوريا بالدور الذي قامت به أمريكا، بالأمس، في العراق؟ أليس في هذا توزيعا للأدوار بين أقوياء الأمس واليوم على تقليص أي دور للعرب في المنطقة، لفائدة إسرائيل التي باتت بمعزل عن أي اهتمام، وهي تضطلع بالدور التقليدي في فلسطين بلا حسيب ولا رقيب؟
لم يقم الاتحاد السوفياتي مرة واحدة بالاصطدام المباشر مع أمريكا. كانت الحرب بالوكالة من خلال دول إفريقية وآسيوية وجنوب أمريكية. وها بوتين يحلم باسترجاع «القوة الروسية»، مستغلا محاولة أوباما تغيير صورة أمريكا في العالم، فيحقق الحلم الروسي في الهيمنة على المنطقة، بالتدخل السافر، مستفيدا مما يقدمه له النظام السوري. أما بشار، فينزع، بدوره وهو الزعيم ابن الزعيم نحو استكمال ما ابتدأ به أبوه، بدك حماه، بتدمير حلب. أليس هذا الواقع أشد مرارة من الخيال؟ تبدو هذه الحرب وكأنها لعبة فيديو، لا نهاية لها. وكلما انتهت حلقة، جاءت حلقة أخرى، وهكذا دواليك. إنها اللعبة الإلكترونية إياها: القتل والتدمير، والتعطش لمعاينة الدماء والأجساد المحترقة، والديار المحطمة على رؤوس ساكنيها. ولا فرق بين الجندي الأمريكي في العراق، والروسي في سوريا، ولا فرق بين الأب والابن.
لا أخال الروس، وهم يحاولون استرجاع «مكانة» الاتحاد السوفياتي المنهار، لا يقومون إلا بما كان يقوم به الأمريكيون في العراق؟ فإلى جانب محاولة بسط الهيمنة على المنطقة، من جهة، وتجريب أسلحتهم وتطويرها، من جهة أخرى، يتلبسون صورة الجندي الأمريكي التي كان يعتبر نفسه في نزهة، وأنه يمارس الحرب وكأنها لعبة فيديو؟ إنهم ليسوا بشرا، إنهم مثل وحوش أفلام الرعب لا يهمهم سوى نهش الأجساد، وتدمير كل شيء. من يقول إن العرب لا يتقنون فنون «أفلام الرعب»، وليس لهم مخرجون أكفاء في ذلك واهم. إن كل أفلام الرعب الأمريكية، بخدعها السينمائية، تقف عاجزة عن تجسيد ما يجري في سوريا وتمثيله.
إن مرد تساؤلي عن جدوى الكتابة يكمن في وقوفي على ردود الفعل حول هذه الحرب؟ والكل مصر على استمرارها، ويراها طويلة الأمد. وأنا أرى العالم لا يهمه ما يجري، وحتى التصريحات عن الخروقات، وعن التدمير، ليست سوى عبارات رنانة لا فائدة منها، وهي تقال داخل أروقة الأمم المتحدة. كانت جرائم الصهيونية ضد الفلسطينيين تثير ردود فعل في الشارع الأوربي، والعربي. وكانت الحرب على العراق تلقى صدى في الشوارع نفسها. الآن لا نرى، ولا نسمع سوى تعليقات باردة من الإعلام العالمي، والعربي. فهل مقولة «الحرب على الإرهاب» صارت مبررا لانتهاج كل الأساليب للتدمير والتقتيل الذي لا يلقى الإرهابيون فعلا، إلا جزءا يسيرا منه بينما كل الجرائم ترتكب ضد المدنيين وضد البنيات التحتية لشعب مهجر، ومحاصر؟ لماذا يخرس الشارع العالمي تجاه الفظائع التي ترتكب في ليبيا واليمن وسوريا والعراق؟
يشارك الكل في حرب الفيديو متفرجا، أو صامتا خنوعا، وكأن هذه مشكلة لا قيمة لها. ووسط حرب الفيديو هذه تتعالى أصوات، باسم عائلات ضحايا أحداث أيلول (سبتمبر)، من الكونغرس الأمريكي تطالب بمقاضاة رعاة الإرهاب؟ أين كنا، وأين أصبحنا؟ إن عائلات ضحايا الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) أرقى جنسا من الشعوب التي دُمرت بلدانها، وتعرضت للتقسيم والتقويض ونشر الفوضى التي ما تزال آثارها إلى الآن قائمة في العراق. من يقاضي الكونغرس الأمريكي على مصادقته الحرب على العراق؟ وعلى تدميره وتخريبه؟ من يقاضي روسيا على جرائمها في سوريا؟ من يقاضي الشعب الأمريكي على صمته على التدمير الذي تلحقه إداراته، التي يصوت عليها، وتدخلاته السافرة في الشؤون العربية، وهو يرسم السياسات التجويعية للشعب العربي وشعوب العالم المستضعفة؟
لقد تغير العالم فعلا، وتاريخ القرن العشرين، لن يتكرر بالصورة نفسها في هذا القرن. فعندما يتولى رئاسة فرنسا وإيطاليا أناس مثل ساركوزي وبيرلسكوني، يبرز لك الفرق الكبير بين التاريخ والواقع. وعندما تنظر في الواقع الفكري والثقافي الذي عرفته فرنسا في السيتينات والسبعينيات، مثلا، وما تعرفه حاليا يظهر لك البون بوضوح بين الأمس واليوم. صارت الشعوب غير مهتمة إلا باجترار الروتين اليومي، وصار المرتزقة ورجال الأعمال اللصوص هم من يُسيِّر العالم بلا قيم ولا أخلاق غير أخلاق السوق الشرهة. وحتى الشعوب العربية، صارت بدورها ملهية بالقوت اليومي، والتفكير في الأمن، وصارت نخبتها صورة عن نخب العالم ضعيفة وانتهازية.
جاء الربيع العربي ليكون فاتحة عهد جديد، ينعم فيه المواطن العربي بالحرية، فاستغلته الطائفية الدينية والعرقية والعسكرية للحيلولة دون تحقق الحلم العربي في التقدم والتطور، والحياة الكريمة. واستغلته أنظمة أخرى لممارسة الحرب عليه، وتدمير حلمه بملئه بالكوابيس، وها هي تقول له: حلب الشهباء لن تكون سوى كحلاء؟
القدس العربي – سعيد يقطين