بينما تحمل قوارب الموت المئات من السوريين المهاجرين لأوروبا يوميا، ثمة هجرات معاكسة، وإن كانت نادرة، لسوريين تركوا أوروبا وهجروها إلى أرض ثورتهم التي أوشكت ان تصبح خاوية من أهلها بسبب ويلات الحرب. ففي المعضمية، تلك البلدة التي تغص وسط أوجاع الريف الدمشقي، يصر ثلاثة شبان سوريين يحملون الجنسية النمساوية على البقاء في بلدتهم، التي كانوا قد تركوها وهم صغار مع عائلتهم التي أقامت في النمسا منذ سنوات.
ومع انطلاقة الثورة في سوريا، كان والدهم على رأس عمله في مجال الطيران المدني متنقلاً بين دولاً عربية وأجنبية، بينما فضل الشبان الثلاثة العودة لبلدتهم في ريف دمشق وبقوا فيها رغم هجرة الآلاف من أبناء الريف نتيجة تصاعد حدة المواجهات العسكرية والقصف وإحكام الحصار.
أصبح أبو علي، من المركز الاعلامي للمعضمية، والدكتور عمر الحكيم، (وهي اسماء حركية لاثنين من الاخوة الثلاثة) من أبرز الاسماء الإعلامية والطبية في المعضمية، ومكنتهم علاقاتهم بالموسسات الدولية وإجادتهم لأكثر من لغة اجنبية، مكنتهم من تأمين الكثير من الدعم الإغاثي والطبي لريف دمشق.
طلب والدهم منهم مراراً وتكراراً الخروج خارج البلاد، والقدوم إلى مكان إقامته حفاظاً على أرواحهم، إلا أنهم رفضوا الخروج من مدينتهم بشكل قطعي، استمروا وأصبحوا من قادة الحراك الثوري فيها، وتواصلوا مع الشبكات الإعلامية العربية والأجنبية، ناقلين مشاهد اقتحام قوات النظام السوري لها، وظهروا من المعضمية كمتحدثين إعلاميين على القنوات الإعلامية.
فمعظم الفضائيات العربية تعرف أبو علي، الناطق باسم المركز الإعلامي في المعضمية، والمؤسسات الإغاثية الدولية والطبية تتعامل مع الطبيب «عمر الحكيم»، الذي يجيد التواصل معهم بلغة انكليزية طلقة.
وفي ظل الاقتحام الكبير الأول والثاني للمعضمية، نجحوا في عام 2012 من نقل أحداث ووقائع تلك المعارك بشكل مباشر على القنوات الإعلامية، من خلال استخدام تطبيقات وبرامج كانت غير معروفة سوى لأصحاب الاختصاص، إلا أنهم نجحوا في نقل مجريات المعارك على مدار ثلاثة أيام متواصلة.
ولعل مساهمتهم في المجال الطبي كان لها اثر كبير، خصوصا بعد خروج معظم الأطباء السوريين من مناطق المعارضة، والتي هي في أمس الحاجة لهم، فأحدهم طبيب ما زال يعالج الجرحى والمصابين بشكل كامل رغم صغر سنه.
يقول أحد الإخوة الثلاثة (الذين نتحفظ على ذكر اسمائهم لاعتبارات أمنية): «لم أشارك في الثورة كي أتركها في ما بعد ﻷني منذ بداية الثورة أدركت أن صراعنا سيكون طويلا و سيستمر لسنوات.
«لم أخرج من المعضمية ﻷنني ببساطة عايشت الغربة منذ طفولتي في أوروبا وغيرها، وأشعر أن جحيم بلدي أهون من نعيم الغربة». ومع اشتداد الحصار، زاد الطلب من أبيهم على ضرورة خروجهم من المدينة بأي شكل، في حين رفضت والدتهم مغادرة ريف دمشق بدونهم لتبقى في احدى المناطق المجاورة للمعضمية، لتطمئن عليهم بشكل مستمر وتبقى قريبة منهم. ومع بقاء ابناءه الثلاثة في الداخل، وزوجته كذلك، قرر الاب ترك عمله في النمسا والعودة لريف دمشق قريبا من عائلته.. ويقول: «الغربة كربة، تغربنا سنين كثيرة أنا وأولادي وعائلتي كلها داخل المدينة لم انجح في إخراجهم وبالتأكيد لن أتخلى عنهم، لذا ما أن انتهت فترة عملي الرسمية حتى عدت اليهم لأقضي ما بقي من عمري معهم».
وائل عصام – إسطنبول ـ «القدس العربي»: