كان لوزير الخارجية الأمريكي جون كيري اقتراح جديد في نقاش مجلس الأمن التابع للامم المتحدة يوم الاربعاء. طالب بمنع الطائرات الحربية من التحليق في سوريا في المناطق الحساسة في محاولة لمنع القصف الجوي، مثل ذلك الذي تم تجاه قافلة المساعدات التابعة للامم المتحدة بالقرب من حلب، الامر الذي حطم اتفاق وقف اطلاق النار الاخير الذي توصل اليه مع نظيرها الروسي سيرجيه لافروف. بالاضافة لمسألة عدم اشارته ما هي المناطق الحساسة المقصوده فان المشكلة الاشكالية في اقتراح كيري هو أنه لا توجد طريقة لمنع طائرات القوتين اللتان تقصفان المدنيين في سوريا ـ سلاح الجو التابع لنظام الأسد والسلاح الروسي. وقد أسرع لافروف لرفض الفكرة.
في العقود الثلاثة الاخيرة، فرضت القوات الدولية عدم الطيران على ثلاث مناطق: فوق المنطقة الكردية في العراق، البوسنه وليبيا. في جميع هذه الحالات كانت هناك حاجة إلى سلاح جوي غربي مسلح جيدا وتدخل أمريكي، من اجل فرض منع الطيران وعند الحاجة اسقاط الطائرات التي اخلت بذلك. لن تتنازل اية دولة برغبتها عن تفوقها الجوي وتتطوع بعدم تحليق طائراتها.
في مراحل مبكرة من الحرب الاهلية في سوريا، قبل خمس سنوات، استجدت منظمات المعارضة المجتمع الدولي ليفرض مناطق ممنوعة من الطيران لمنع الطائرات التابعة لنظام الأسد من قصف التجمعات السكانية المدنية، ورغم امكانية التفوق بسهولة على سلاح الجو السوري فان كل محاولة لفرض حظر جوي فوق مناطق الحرب كانت تواجه مقاومة من الطائرات الحربية الروسية.
اذا كان الرئيس براك أوباما يرتدع في السابق من الدخول في مغامرات عسكرية خلال فترة رئاسته، فان المواجهة مع موسكو هي الامر الاخير الذي يريده في اشهره الاخيرة في البيت الابيض. إلا ان الانهيار التام بوقف اطلاق النار والقصف المكثف على حلب المحاصرة من قبل روسيا ونظام الأسد قد دفع كيري إلى تقديم اقتراحه الذي هو في نفس الوقت غير واقعي ويشكل تراجعا عن مواقف الادارة السابقة.
هذا ليس التراجع الاكثر أهمية من قبل الأمريكيين في الحرب الاهلية في سوريا. التراجع الابرز خلال السنوات الخمسة والنصف هو القرار الذي اتخذه أوباما في ايلول 2013 بعدم القيام بمجموعة من الضربات ضد نظام الأسد ردا على القصف الكيميائي على مشارف دمشق الامر الذي تسبب بموت 1.400 شخص. رغم أنه أعلن قبل ذلك بعام وبشكل واضح ان استخدام السلاح الكيميائي سيعتبر تجاوزا للخطوط الحمراء، فقد فضل أوباما استخدام حبل الانقاذ الذي قدمه الروس، على شكل موافقة النظام التوقيع على ميثاق دولي لمنع انتشار السلاح الكيميائي وتفكيك هذا السلاح الموجود لدى النظام السوري.
ان قرار أوباما كان أمرا مفصليا وبمقابلة مطولة مع مجلة «اتلنتيك» خلال هذا العام تفاخر الرئيس بـ «التحرر من وثيقة التشغيل لواشنطن» الذي تقول ان الولايات المتحدة ملزمة بان تحافظ على مكانتها بالعمل العسكري. يستمر أوباما في تصميمه حتى اليوم بان القصف كان لن يفيد، ولكن عند مراجعة الفترة التي تعاطى فيها مع الموضوع السوري يظهر أن القرار منذ عام 2013 لم يكن مصيرا إلى هذا الحد. وكان مجرد واحد من مجموعة تنازلات وهي مستمرة حتى اليوم.
في الاشهر الاولى للحرب الاهلية حيث قامت قوات الأسد بارتكاب المجازر ضد المتظاهرين الذين طالبوا بالديمقراطية، امتنعت ادارة أوباما عن مطالبته بترك منصبه. ومعنى ذلك غير أوباما موقفه وطالب بتغيير الأسد ولكن في العام الماضي في اطار النقاشات مع روسيا اختفى مطلب مغادرته أيضا بالنسبة للروس تغير الموقف. قبل عام أرسلت روسيا طائراتها الحربية إلى سوريا، وقال الأمريكون ان هذا خطأ كبيرا من موسكو وانهم لن يتعاونوا معها. وبعد ذلك باسابيع بدأت محادثات التنسيق بين البنتاغون وبين الجيش الروسي، وفي الاتفاق الاخير بين كيري ولافروق تم الحديث عن غرفة عمليات مشتركة. ايضا السياسة الأمريكية حول المتمردين تغيرت: من الفيتو حول تقديم السلاح مرورا بخطوة فاشلة لتدريب المتمردين الذين انتقلوا إلى داعش، وحتى عملية الضغط على المتمردين بعدم محاربة النظام والتركيز على داعش.
منتقدو أوباما مقتنعون بان السياسة الأمريكية في سوريا كانت طوال الوقت اسيرة لرغبة أوباما في التوصل للاتفاق النووي مع إيران الامر الذي سيحدث تغييرا استراتيجيا في المنطقة. انهم يعتمدون على اقوال أوباما في المؤتمر الصحافي في كانون الاول 2015 حين تحدث عن «احترام الممتلكات الإيرانية في سوريا». لم يفسر الرئيس اقواله ولكن هناك من يعتبر ذلك تفسيرا لامتناعه عن الحاق الضرر بالنظام او بحزب الله اللذين هما حلفاء إيران في سوريا. قبل عدة اسابيع كتبت الـ «وول ستريت جورنال» تقريرا بان احد أسباب الغاء القصف عام 2013 كان التهديد الإيراني بوقف المحادثات النووية.
سواء كانت هناك صلة مباشرة بين الخطوات الدبلوماسية مع إيران وبين السياسة في سوريا فلا شك انه بالنسبة لأوباما الذي وصل إلى البيت الابيض مع تعهد بانهاء الحروب الأمريكية في العراق وافغانستنان من الممكن أن أوباما اعتبر سوريا بمثابة العراق 2. وحتى الان اضطر إلى اعادة كميات قليلة من القوات للعراق وافغانستان من أجل محاربة المنظمات الإرهابية ومساعدة الحكومات هناك من اجل البقاء. واشترك ايضا في التحالف الدولي الذي ساعد المتمردين في ليبيا عام 2011، وذلك بعدم وجود رغبة، حيث انجر وراء حليفاته الاوروبيات بريطانيا وفرنسا. وفي نهاية المطاف اضطر إلى القصف في سوريا ولكن تجاه تجمعات داعش فقط. وكما تقول المعارضة السورية فان الخط الوحيد الذي لم يتجاوزه أوباما هو ضرب نظام الأسد.
تعاطي أوباما مع السياسة الخارجية في معظم سنواته كرئيس اعتمد على رؤية اللاعبين الدوليين رغم الايديولوجيات التي تحركهم، كمن سيتصرف بحكمة. ولن يكون لهم خيار سوى العمل حسب خطوط واضحة. هذا الموقف هو الذي وجهه في المراحل الاولى للثورة في مصر، والمفاوضات حول الاتفاق النويي مع إيران وتعاطيه مع رئيس روسيا فلاديمير بوتين. ليس واضحا ان كان أوباما قد تخلى عن هذا الموقف كليا، ولكن بالنسبة لسوريا على الاقل يبدو أنه توصل لاستنتاج انه لا توجد قوانين في هذه الساحة.
في خطاب حول وضع الامة الذي القاه في الكونغرس بداية هذا العام قال أوباما أن «الشرق الاوسط يمر بثورة ستستمر جيلا كاملا وان جذورها مغروسة في الصراعات المتكررة منذ الاف السنين». كان واضحا بالنسبة لمستمعيه أنه يحاول بذلك تبرير قلة الحيلة الأمريكية في سوريا. هذا مبرر مقلق لأنه يذكر بالدبلوماسية الغربية في سنوات التسعين التي اقترحت على حكوماتها عدم التدخل في الحرب بين اجزاء يوغسلافيا المتفككة وادعوا بان الحديث هو عن «كراهية عتيقة» لا تفهم بها القوى العظمى الغربية. هذا ادعاء أدى إلى تأخير تدخل الناتو والى مقتل الكثير من المواطنين.
لا يمكن عدم الحديث عن شريك أوباما في سياسته لسوريا، الفارس جون كيري، وعلى العكس من أوباما الذي يبدو انه مؤمن ان لا شيء يمكن أن يساعد في سوريا لان الحديث هو عن عداوات قديمة بين اللاعبين المحليين، فيبدو أن كيري يؤمن بان كل شيء يمكن ان ينجح. لذلك ايد قصف اهداف النظام من اجل «ايصال رسالة» للأسد لكي يتوقف عن ذبح المواطنين. وعلى العكس مما حدث في بداية العام حيث أمل في التوصل لوقف اطلاق النار مع الروس، فقد هدد بغضب ممثلي المعارضة السورية الذين تخوفوا من أن وقف اطلاق النار سيسمح للنظام بالاستمرار في ضربهم، بانه إذا لم يؤيدوا الاتفاق فان الولايات المتحدة ستكف عن دعمهم وبالتالي سينهارون خلال أشهر.
يبدو أن بشار الأسد سيستمر في الجلوس في القصر الرئاسي في دمشق ايضا بعد ان يغادر أوباما البيت الابيض. واذا لم يحدث تحول غير متوقع في سوريا ستستمر اراقة الدماء. حتى اللحظة الاخيرة سيستمر كيري في لقاءاته مع نظيره الروسي وأوباما سيستمر في ابعاد نفسه عن المسألة السورية. وهذا لن يغير من حقيقة أنه بسبب عدم التدخل في الساحة فان المسؤولية عن الكارثة العالمية الاكبر خلال فترة رئاسته ستقع عليه ايضا وتوصم ذكرى ولايته.
آنشل بابر_القدس العربي