في زحمة الأحداث المتسارعة التي تصبغ بالدم والقهر معظم الأرض السورية، تتوالى معطيات جديدة وتطفو على السطح مخططات دولية في شكل مباحثات ومفاوضات وتوافقات واختلافات فوق الطاولة وتحتها بأدوات سورية وغير سورية، فتضيع الصورة الحقيقية لما يجري ولما يراد لسورية وطناً وشعباً.
وفي هذا الإطار الضبابي يتعين متابعة التفاصيل إن أردنا أن نفهم ولو جزءاً يسيراً من الصورة الكبرى، التي أزعم أن أحداً لم يصل بعد إلى حيازة نسختها الأخيرة. وتتغير قواعد اللعبة في سورية نتيجة لعوامل معقدة؛ لم يكن دخول الروس وتنفيذهم لجزء مما اتفق عليه مع أطراف مؤثرة أخرى آخرها. ففي إطار تلك الأحداث مرت وقائع غاية في الأهمية مرور الكرام وربما طواها النسيان في معرض استقبال الجديد من الأحداث. ويُفسر بعضاً من تلك العوامل الصمتُ المريب على ما يحصل من استمرار للقتل الجماعي وللاغتيالات الفردية المادية والمعنوية لقيادات واعدة.
كان خيار النظام وداعميه منذ الانطلاقة الأولى تحويل الرأي العام العالمي والمحلي نحو تقبل روايته بأن من يثور على “الدولة” هم حفنة من المتشددين والإرهابيين المدعومين من أنظمة خارجية لها أجنداتها المشبوهة. وقد نجح النظام إلى حد بعيد في تغذية توجهات تخدم روايته لدى بعض الثائرين، عن طريق ضخ أفكار هدامة لها حملتها في أرضنا وعن طريق سكب الزيت على النار بتسريب آلاف فيديوهات التعذيب والقهر والقتل والإهانات للشعب ولمقدسات الأمة. فأسهم كل ذلك في اصطباغ المشهد بلون السردية التاريخية ومساراتها الدينية والفكرية.
أصر النظام وداعموه على حشر العالم أجمع بين إرهاب اخترعه وسوّقه وروّع العالم به، وبين نظامه الديكتاتوري المجرم البغيض القاتل، فكان الخيار واضحاً تماماً… بالنسبة لأولئك: نظام يقتل شعبه أفضل ألف مرة من مجموعات إرهابية تتخذ سورية الدولة الفاشلة قاعدة لها تنطلق منها لترويعهم وقتلهم في عقر دارهم في دولهم وقاراتهم البعيدة. أما ضحايا الشعب السوري الذين يُقتلون على أيدي السفاح ومناصريه فما هم إلا أضرار جانبية يمكن التعايش معها في الضمير الأوروبي ولفترات طويلة، والأمثلة على ذلك كثيرة.
ولكن مقاربات الذهنية المحاربة غير الوطنية لم تدم طويلاً، فما أن عاد التوجه إلى المسار الصحيح وبدأت المراجعات الفكرية الرائدة في تصويب الفكر الثوري لدى معظم الكتائب، حتى دقت نواقيس الخطر لدى دوائر الاستخبارات والتخطيط لدى النظام وداعميه، فاتجهت يد الغيلة والغدر لقيادات ثورية كثيرة عول السوريون عليها في تقدم الصفوف، في الوقت الذي لا بد فيه من وجود قيادات آتية من جذور المجتمع؛ ملتزمة بما بدأت به الثورة، قيادات بعيدة عن الانتهازية والتلون والتبعية والقفز بين الخطوط. ظن أولئك أن استعمال سياسة قتل القيادات الواعدة سينهي جزءا كبيرا من المراجعات وإعادة التفكير والنظر في أولويات الثورة، ولكن ما حصل هو عكس ذلك تماما فقد تعمقت المراجعات وزاد الالتحام بين قوى الثورة المسلحة وبين جمهور الثورة العريض، وعادت معظم القوى الثورية المقاتلة لتعبر عن معدن السوريين بإسلامهم الجميل الوادع وبكبريائهم وفتوتهم وبقلوبهم الذين يغسلونها في طست الايمان الشامي كما أعلنها الشهيد أبو اليزن الشامي يوما.
كما استطاع السوريون إثبات قدرتهم على إنتاج موجات متتابعة من الكمون الواعد ومن قلب الثورة ضمت شباباً مثقفاً واعياً مؤهلاً انخرط في تجارب مشرفة من العمل المدني المنظم. آلاف منهم انخرطت في العمل الإغاثي والإعلامي والبحثي، وفي الدفاع المدني والتنظيم المحلي وغيرها من المجالات. وسيكون هؤلاء بلا شك أساس الاسمنت المتين الذي سيعيد انتاج بنية الوطن. لم يكن بإمكان النظام وداعميه بل وبعض المحسوبين على الثورة، تحمل وجود مجموعات قيادية ثورية شبابية واسعة الأفق تغير تلك النظرة وتقنع الجميع أن البديل جاهز، وهو من صلب الأرض، وصلب الثورة، وهو بديل معتدل في تدينه ووطنيته منفتح على حضارات الآخر وأفكاره لم يؤدلَج لا بعثياً ولا شيوعياً ولا قاعدياً، بل تأدلج سورياً تسامحاً وحضارةً. شكلت تلك الوجوه لهم عقبة كأداء لأنها تضرب بوجودها وخطابها أساس الفكرة التي سوقوا لها طويلاً، بأن الحل السوري ينطلق من الأسد ومن بعثييه وأمنييه هنا وهناك، وأن البدائل الثورية السورية غير موجودة، فإن وُجدت فجمهورها أحادي الوجهة والمستقبل، ولا يمكن أن تكون مقبولة من الجمهور الآخر ولا من داعميه على ضفتي الانقسام بين الأصدقاء والأعداء المفترضين. كان لا بد من قتل أي مشروع لقيادي يخرج من بين الناس من دون ماض مشين. فإن كان القتل المادي غير متاح فلا بد من إعمال آليات قتل الشخصية في سمعتها والتحريض عليها، ولا بأس إن تم تلفيق واختراع تُهَمِ التخوين والعمالة، تلك الآليات التي ما فتئت تنهش بأجساد أحرار العالم عبر العصور.
لا ريب في أن عدداً من اللاعبين على الساحة السورية قد انخرطوا في تسويق الكذبة نفسها من جديد وأصبحوا أكثر دفاعاً عنها، لأنها تزيد من جمهورهم وشعبيتهم، ولأنها – ببساطة – تعطيهم هامشاً أكبر للتحرك في الفضاء الدبلوماسي الدولي والإقليمي وتحولهم إلى لاعبين بارزين في لعبة محاربة الإرهاب التي ستُفضي حتما إلى ترضيات دولية وإقليمية ينال فيها المجتهد جائزة ترضية من سياسة واقتصاد ما بعد الحرب.
إن تغييب شخصيات فاعلة قادرة على حمل المشروع السوري الكبير، وما نشهده من غض الطرف حتى هذه اللحظة عن حملات التشويه التي تنال الشخصيات المرجعية المعتبرة في مناطق مختلفة على الأرض السورية، لا يخدم إلا تعويم مجموعات معينة متصدري المشهد… قيادات حسب الطلب وحسب المرحلة، خاصة من الذين لا يسمح لهم تاريخهم ولا مؤهلاتهم التصدر والتقدم بفكر سياسي منفتح ومحترف قادر على فصل الغث من السمين وعلى تحمل عبء إدارة الأحداث بعيدا عن تقلبات الدول وعن التفكير الشعْبوي والأنَوي في آن .
لا يمكن لشعب يسكت على اغتيال شرفائه قتلاً أو تغييباً أو تشويه سمعة خدمةً لمخططات غربية أن ينتصر ويسمو على أعدائه، ولو كانوا أعداء البشرية جمعاء. ولم يعد من المقبول رؤية مخططات الغير تنفذ بأيدي السوريين وبدمهم لكنها تعبث بمستقبلهم وأحلامهم، من دون أن نحرك ساكناً، فلنهب جميعا ونقف صفاً واحداً في وجه من يعبثون بمستقبل بلدنا.
القدس العربي