تتنافس القوى المحلية المتصارعة في سوريا على كسب ود العشائر العربية، وضمها إلى جانبها في القتال ضد الأطراف الأخرى.
وخلاف غيرها من القوى، تقدم العشائر العربية خدماتها للقوى الأخرى من دون مكاسب تُذكر لعموم السكان العرب، في حين ينفرد شيوخ العشائر ووجهاؤها والدائرة الضيقة المحيطة بهم بتحقيق مصالح ذاتية على حساب مصالح عامة العرب. وفي الوقت الذي تعمل الأطراف المتصارعة على تحقيق مصالح طائفية، أو فئوية أو حزبية، أو قومية، وأحيانا مناطقية، لا تزال العشائر العربية في سوريا تؤدي أدوارا إلى جانب هذا الطرف، أو ذاك، بعيدا عن أي مكاسب عامة. ففي حين قاتل بعضها إلى جانب النظام، الذي حقق مكاسب ميدانية في محافظة الحسكة، هناك عشائر أخرى قاتلت إلى جانب القوات الكردية في المنطقة نفسها على جبهات أخرى.
كما تميزت العشائر العربية، في معظمها، بموقف الصامت أمام انتهاكات يتعرض لها السكان العرب من أطراف أخرى، مثل النظام أو القوات الكردية، أو حتى الفصائل المسلحة الإسلامية وغير الإسلامية. ويشتكي أبناء القرى العربية، الخاضعة لسيطرة وحدات الحماية الكردية، من حملات تجنيد إجبارية، أو دفع بدلات مالية عن كل شخص يرفض الالتحاق بمعسكرات تدريب المجندين إجباريا. وقد دفعت حملات التجنيد الإجباري بالمزيد من الشباب العرب للنزوح عن مناطقهم التي تسيطر عليها وحدات الحماية الكردية إلى مناطق أخرى، تقع تحت سيطرة النظام كمدينة الحسكة، أو مدينة الرقة الخاضعة لسيطرة تنظيم «الدولة الإسلامية». وهذا بالتأكيد يهدد التركيبة السكانية بخلل فاضح لصالح بعض القوى الكردية التي تسعى لإقامة كانتون كردي في مناطق شمال شرقي سوريا.
وينطلق الأكراد، في فرض التجنيد الإجباري، من رؤية توجب على العرب القتال إلى جانبهم دفاعا عن مناطق كردية يسكنها العرب بصفتهم كمحتلين. وهو ما يضعهم أمام خيارات قاسية تتراوح بين القتال إلى جانب الأكراد ضد العرب في إطار الحرب الأهلية بوجهها القومي، أو مغادرة قراهم ومناطق إقامتهم لتغييرهم بسكان أكراد، وفي أحسن الأحوال، القبول بوجودهم كأقلية عربية تحت سلطة كردية تفرض عليهم القتال إلى جانبها، أو دفع مبالغ مالية.
وعلى الرغم من الدور الكبير الذي أداه أبناء العشائر العربية، الذين قاتلوا إلى جانب الأكراد ضمن بعض تشكيلات الجيش الحر، أو لواء ثوار الرقة ضد «تنظيم الدولة» إلا أنهم وعائلاتهم كانوا عرضة لحملات التهجير أسوة بغيرهم من السكان العرب.
وحسب محللين، فإن الوحدات الكردية عمدت، منذُ اندلاع الثورة السورية، إلى تبني خطاب مكثف يقود إلى تحميل السكان العرب المسؤولية عن معاناتهم طيلة عقود من سيطرة النظام على مناطقهم؛ وتحميلهم مؤخرا جريرة سيطرة «تنظيم الدولة» على مناطقهم أيضا.
ولا يقتصر فرض التجنيد الإجباري على العرب من الذكور بل يشمل الإناث أيضا، وهو ما لا يتوافق مع التقاليد العربية. كما أن الكثير من العوائل الكردية غادرت مناطقها تحاشيا لإجبارهم على تجنيد بناتهم. وتُقدر مصادر في «المرصد السوري لحقوق الإنسان» أن هناك ما يزيد عن 20 ألف إمرأة يقاتلن في صفوف القوات الكردية. وتفاديا للقتال إلى جانب الوحدات الكردية، يترتب على الممتنعين ممن يسمون بالمجندين العرب دفع مبلغ ألف دولار أمريكي أو بندقية آلية أو مغادرة المنطقة. لكن في مقابل وقوف معظم العشائر العربية إلى جانب أطراف الصراع التي تستهدفهم أو تستهدف عربا آخرين، تبرز بعض العشائر العربية بمواقف مغايرة تتبنى الدفاع عن مناطقها وحمايتها من استهداف القوى الأخرى، والوقوف ضد أي مشروع يؤدي إلى تقسيم سوريا.
الوقوف ضد المشاريع التي تريد تقسيم سوريا موقف تتبناه أيضا أهم القوى الكردية الفاعلة على الساحة السورية والأكثر تأثيرا على الشعب الكردي في سوريا وتمثيلا له، إذ يؤكد حزب «الاتحاد الديمقراطي» على أنه مع قيام إدارات ذاتية في عموم المحافظات السورية ضمن دولة سورية موحدة.
وتشكل العشائر العربية، شرق وشمال شرقي سوريا، الكيان الأكثر تشتتا بين باقي الكيانات القومية أو الطائفية، وتتوزع ولاءاتها بين «تنظيم الدولة» أو النظام أو الأكراد، ما يعني غياب المشروع العربي في تلك المناطق، في حين يثبت المشروع الكردي تجسيدا له على أرض الواقع يوما بعد آخر.
الشتات الذي يسود رقعة انتشار العشائر العربية أثر سلبا على التعاطي معها من دول كبرى، مثل روسيا والولايات المتحدة، وحتى من دول إقليمية ذات نفوذ، مثل تركيا. ففي حين تتنافس كل من الولايات المتحدة وروسيا، وتقدمان المزيد من المكاسب للأكراد لاستقطابهم، بقيت القوى العربية – المتمثلة بالعشائر – بعيدة عن محاولات الاستقطاب لإدراك الأطراف الأخرى أنها لم تعد قوى فاعلة على الأرض. وهذا على خلاف الأكراد الذين باتوا يتمتعون بقوة عسكرية، وتأثير واضح في مجريات الأحداث، وبالتأكيد ستكون لهم بصمة ما في إعداد خارطة سوريا المستقبل.
وقد ظلت الولايات المتحدة بعيدة عن التعاون مع أكراد سوريا، خلال السنوات الثلاث الأولى من الثورة، تجنبا لإثارة الدول العربية أو تركيا. لكن معارك كوباني رفعت كل القيود التي وضعتها الولايات المتحدة على سياسة الانفتاح على الأكراد الذين باتوا اليوم الحليف الموثوق للأمريكيين، في حالة شبيهة لتلك الثقة التي أولتها لعشائر الأنبار السُنية التي قاتلت تنظيم «القاعدة» في 2007.
وتأتي سياسة الانفتاح الأمريكي على أكراد سوريا في إطار التنافس مع روسيا التي تطمح إلى أن يكون الأكراد هم القوة الرئيسية التي تقاتل إلى جانب الجيش السوري ضد الفصائل المسلحة. وتشكل هذه نقطة عدم التقاء، إذ تقوم الولايات المتحدة بدعم بعض الفصائل المسلحة الموصوفة بالاعتدال بشكل مباشر، أو تشجيع دول حليفة لها لتقديم الدعم اللازم لها.
ومع كل محاولات إلغاء دور العشائر العربية في سوريا، وحالة عدم الانسجام في علاقاتها البينية، وتشرذم قواها، وتوزع ولاءاتها، ستظل تحتفظ بدور هامشي إلى حد ما. وستحاول الولايات المتحدة توظيفه لصالح خطتها الهادفة إلى إقامة منطقة آمنة في شمال شرقي سوريا إلى جوار العراق، كبديل عن الخطة التركية لإقامة منطقة آمنة على حدودها الجنوبية مع سوريا تشرف عليها فصائل تركمانية وبعض فصائل الجيش الحر والفصائل الإسلامية المعتدلة، كحركة «أحرار الشام».
القدس العربي