يجمع بين تركيا والسعودية الكثير من الأواصر وتمثّل كلّ منهما قطبا خطيراً في العالم الإسلامي، فالأولى مهبط الوحي والرسالة الإسلامية ومركز أماكنها المقدّسة وأرض الحجّ التي يهفو إليها مسلمو الأرض، والثانية هي مقرّ الخلافة العثمانية التي ورثت مجد الحضارة الإسلامية وأسّست امبراطورية هائلة جمعت أغلب الأقطار العربيّة تحت راية الخلافة التي انطوت مع احتلال الدول الغربيّة المنتصرة في الحرب العالمية الأولى لتلك البلدان وصولاً إلى تأسيس الجمهورية التركية الحديثة عام 1923 والمملكة العربية السعودية بصيغتها وحدودها الحاليّة بعدها بتسع سنوات عام 1932.
قبل تأسيس مملكتها (الثالثة بعد محاولتين سابقتين) كانت الجغرافيا السعودية مجال صراع مصريّ ـ عثمانيّ وقد تضاربت وتلاقت مصالح هذه الأطراف الثلاثة عدّة مرّات وتعتبر قصة الملكة عفّت، المولودة في إسطنبول من أب من أصول نجديّة وأم شركسيّة، والتي كانت لغتها تركية وتزوجت الملك فيصل بن عبد العزيز في عشرينيات القرن الماضي مثالا على الأثر المجدي لتفاعل القوة الناعمة بين بيئتين، وكان تأثيرها الليبرالي حاضراً حيث كانت ترافق زوجها في رحلاته للدول الأجنبية وتلتقي الرؤساء كما حصل مع الفرنسي جورج بومبيدو عام 1972، وقادت، حسب مؤرخين نهضة نسائية من دون إثارة حروب مع المؤسسات المحافظة والتقليدية في المملكة.
إضافة إلى هذا النموذج اللافت حول إمكانيات التلاقح الفكري بين بيئتين في تاريخ الأسرة المالكة فإن أبرز ما يجمع السعودية وتركيا بعد تأسيسهما كانت علاقة التحالف الوطيدة مع الولايات المتحدة الأمريكية ومع الغرب عموماً، وأن أغلبية مواطني البلدين من المذهب السنّي، لكن نقاط الترابط كانت غالباً ما تتوقّف عند هذا الحدّ، فالمملكة مشهورة بتقاليدها الدينية المحافظة بينما كانت جمهورية أتاتورك مثالاً للتطرّف في إقصاء الدين عن الحياة السياسية، إضافة إلى كون الحكم السعودي يقوم على قاعدة السلطة المطلقة فيما كانت اتّبعت تركيّا النظام الديمقراطي البرلماني وللأحزاب والنقابات والمجتمع المدني فيها أدوار وازنة كبيرة.
ويمكن الاعتقاد أن صعود حزب العدالة والتنمية وهو حزب يعتبر نفسه محافظاً غير معاد للغرب ويتبنى رأسمالية السوق جعل الطرق سالكة بين تركيا والمملكة المحافظة غير المعادية للغرب والتي تتبنى أيضاً رأسمالية السوق لكنّ الأمر لم يكن بهذه البساطة فرغم لقاء المصالح بين البلدين على مناهضة نظام بشار الأسد في سوريا عام 2011، فإن دعم السعودية للرئيس المصري الأسبق حسني مبارك على الضدّ من الثورة المصرية في العام نفسه، ثم برودها الأقرب للجفاء نحو الرئيس الإخواني المنتخب محمد مرسي ثم تحالفها مع انقلاب عبد الفتاح السيسي عليه وإعلانها «الإخوان المسلمين»، في عهد الملك السابق عبد الله بن عبد العزيز، تنظيماً إرهابيّاً، أزّمت العلاقات وانعكست سلباً على التعاون لصدّ التحدّيات السياسية المهولة.
كان الاتفاق النووي الغربي مع إيران عام 2013 واستيلاء الحوثيين على صنعاء عام 2014 وضغوط الإدارة الأمريكية في الموضوعين اليمني والسوري على الرياض أسبابا متعددة لتنامي الشعور بالغضب السعودي الذي انعكس فتوراً وحملات إعلامية شديدة على إدارة أوباما، وهو ما فتح الطريق عمليّاً لإحساس متعاظم في أنقرة والرياض بوجود مخطط أمريكي لتحجيمهما، وانضاف إليهما حاليّاً تحدّي الكونغرس لفيتو أوباما حول قانون «العدالة والإرهاب» المفصّل، على ما يبدو، لابتزاز السعودية ماليّاً.
الأتراك من جهتهم فاضت كأسهم من الخذلان الأمريكي الفظيع المتمثّل في دعم حزب «الاتحاد الديمقراطي» و«وحدات الحماية الكردية»، واللذين تعتبرهما أنقرة تشكيلين إرهابيين تابعين لحزب العمال الكردستاني، ورفض «الناتو» دعمهم بمواجهة الروس بعد حادثة إسقاط طائرة السوخوي الشهيرة، وحظر كل خططهم لوقف دخول اللاجئين السوريين عبر فرض منطقة آمنة وحظر جوّي، وكانت محاولة الانقلاب العسكري الأخيرة القشّة التي قصمت ظهر البعير ودفعت الرئيس رجب طيب إردوغان للاعتذار إلى روسيا وتطبيع العلاقات معها (وكذلك مع إسرائيل اللاعب الوازن الثاني في الإقليم).
تقدّم هاتان اللائحتان أسبابا كبرى وحقيقية لتحالف المضطرّ بين الرياض وأنقرة، ولكن هذا التحالف الاضطراري قد يبرهن على فاعليّة كبيرة للطرفين يحوّله من ضرورة موضوعية إلى حاجة استراتيجية.
القدس العربي