أصيخوا السمع إلى كل وسائل إعلامنا، فلن تجدوا فيها اسماً ألمع من اسم الجنرال قاسم سليماني، حتى طغى على أسماء وألقاب أصحاب الجلالة والفخامة والسمو من قومنا.
إنهم يغطّون في سبات عميق، بينما يقضم الجنرال من جُرف خريطة الوطن العربي كل يوم قطراً وليس متراً. تجدونه في دمشق وبيروت علناً، وفي غيرهما سراً، بينما يضع على خريطة العراق خطوط طول وعرض جديدة، ويحدد أبعاد كل محافظة ومدينة وقرية فيه، كي تتلاءم مع المصالح الإيرانية المنفجرة في كل اتجاه، فلم يعد تأمين الشريط الحدودي كافياً كي تقر عين الولي الفقيه، وهو ذراعه التي لا تلين. إنه يتجول في الشمال على أضواء مشاعل الأكراد، التي تنير له الطريق، ويسير في الجنوب تسبقه مباخر الميليشيات من رفاق السلاح في الثمانينيات، وفي الوسط تُفتح له كافة أبواب مكاتب المسؤولين، سنة وشيعة وأكرادا في المنطقة الخضراء، بل البعض منهم وضعوا صوره على مكاتبهم محاطاً بالرفاق في جبهات القتال. إنه الوحيد الذي بات يحظى بالمقبولية من جميع الأطراف السياسية العراقية. لا تأخدوا على محمل الجد تصريحات هذا وذاك، التي تشير بامتعاض إلى دور الرجل، فالأمر بيد زعماء الكتل، وهؤلاء بات قاسمهم المشترك هو قاسم سليماني، حتى شيوخ العشائر وزعماء القبائل ورجال الدين ووجهاء القوم وعليته، باتوا ينتظرون بفارغ الصبر زيارته لهم في بيوتهم أو مضايفهم أو مكاتبهم، أو يسمح وقته لزيارة يقومون بها إليه، لأنه التعويذة الوحيدة التي تطرد عنهم الخطف والاعتقال والقتل، وتجعلهم آمنين مطمئنين على مستقبلهم السياسي أو الاجتماعي من سطوة الميليشيات.
يقول الأكراد أنه أول من هب لنجدتهم لوجه الله.. جاء يحمل شحنات الأسلحة والأدوية برفقة مقاتلين وخبراء ومستشارين، عندما وصل عناصر “تنظيم الدولة” إلى تخوم أربيل وهددوا حدودها. ويقول زعماء الإسلام السياسي الشيعي، إن الأمريكان أخلوا بالتزامهم في معاهدة الأمن المتبادل، ولم يصدوا عناصر التنظيم الذين احتلوا محافظات كبرى فيه، وحده الجنرال هو من هب لمساعدتهم والذود عن سلطانهم، ومازال يقود المعارك في كل الجبهات.
ويتحدث زعماء الإسلام السياسي السني همساً أو على استحياء، بأن الرجل يفتح ذراعيه لكل الأطراف، ولا “فيتو” لديه على أحد، وهي شهادة التقطوها له من زيارة سرية له قاموا بها لطهران بعيداً عن الأضواء، كي لا يجرحوا مشاعر حواضنهم الشعبية. كان فحوى الزيارة يدور عن ماهية الأسس التي تضعها طهران كي يكونوا مقبولين لديها في حكومة الشراكة العراقية، حتى لو كانوا مجرد ديكور يكمل المشهد السياسي. لكن السؤال المهم هو، هل أن الجنرال على خطأ في تحركاته في العراق وغير العراق؟ وهل من حقه أن يمارس هذا الدور القبيح علانية وسراً؟ والجواب على ذلك، في السياسة الخارجية لا توجد أدوار قبيحة وأخرى جميلة، حتى الدور الجميل هو قبيح، لكن تتم تغطيته بمساحيق التجميل، لانه طريقة للتعامل مع الأصدقاء، كي يبدو مقبولا أكثر ويحقق مصالح أكبر، فالسياسة حروب بلا دماء، والحروب سياسة تسيل في ساحاتها دماء. فعلامنا نلوم الجنرال لأنه يتجول بحرية مطلقة في عواصمنا ومدننا. إذا كانت السياسة الإيرانية تمثل خطراً على العراق والمنطقة العربية، فإن الخطأ هو في العراق وسوريا ولبنان واليمن، كما هو موجود في السعودية ومصر وبقية دول التأثير العربي. الدليل على هذا الخطأ هو أنه بعد كل هذا التغول الايراني في العراق، يُصرّح وزير الخارجية السعودي، بكل خبرته الطويلة التي تجازوت عقودا من السنين، بأن إيران في طريقها لوضع يدها على العراق، وكأنه قد اكتشف الاسبرين! كان يجب أن تكون هذه الفكرة موجودة لدى صانع القرار العربي في كل الأقطار، خاصة الموثرة منها قبل عام 2003، كي لا يشاركوا في ذبح العراق من الوريد إلى الوريد، بل أيضا ذبحوا أنفسهم وأمتهم بوقوفهم المذل وموافقتهم على احتلال العراق.
من الطبيعي عندما تحدث ظروف استثنائية في دول ما، أن تأتي كل دولة لتحافظ على مصالحها في ذلك المكان، وهذه لعبة دولية طبيعية للدفاع عن المصالح. عندما حصلت الثورة الفرنسية كل الدول الاوروبية تدخلت كي تفهم ما الذي يجري. إذن ما الدافع الذي أبقى الدول العربية، خاصة المجاورة للعراق تشيح بوجهها عنه، بينما تحركت إيران فيه منذ اليوم الاول للاحتلال، على الرغم من أن إيران وسوريا والاردن والسعودية والكويت، كان احتضان وتدريب وتمويل ما يسمى المعارضة العراقية هو قاسمهم المشترك؟ جواب هذا السؤال يكمن في أن إيران لديها رؤية ومشروع ليس للعراق فقط بل للاقليم عموما. رؤيتها هي خريطتها التي عرفت بها كل تفاصيل العوامل الفاعلة في الواقع، ومشروعها هو خطوتها الاولى التي تحركت بها كي تكون هي الفاعل الرئيسي فيه وليس غيرها، كما أنها حرصت على أن تكون لهذا المشروع وجوه كثيرة، كي تلبس كل وجه بما تقتضيه ظروف ووجهة التحرك. لها وجه إمبراطوري قومي فارسي تقابل به الأتراك، ولها وجه مذهبي تكسب به أتباع المذهب في كل مكان، وتحاول أن تجعلهم أذرعا لها، ولها وجه آسيوي تتحرك به على الهند وأفغانستان والصين وكوريا وغيرها، كما أنها تسعى للحصول على وجه نووي كي تجلس مع الدول في هذا النادي أيضا، بينما لا يقابل كل هذا التحرك أي فعل استراتيجي عربي قائم على فهم هذا الدور واستحقاقاته السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية علينا. صحيح أن السعودية تسعى اليوم لتطوير القدرات العسكرية النووية الباكستانية، بهدف أن تكون تحت تصرفها لتحقيق التوازن مع إيران نووية مستقبلا، لكن هذا السلاح أصبح مجرد حالة ردع ساكن، لان الردع الفاعل هو بما تملكه أنت من أذرع فاعلة ممتدة للدفاع عن مصالحك في ساحات أخرى، وكي تنجح استراتيجيتك يجب أن تكون عوامل النجاح بيدك، وليس بيد الآخرين. أربع عواصم عربية خطفها المشروع القومي الإيراني ووضعها في رحله، ومازالت استراتيجيتنا التي نصوغها في بيانات قممنا العربية ولقاءات زعاماتنا الثنائية، هي التعبير عن القلق والاستنكار والاحتجاج على كل التمزيق الذي يقوم به الاخرون لشبكة أمننا القومي.
د. مثنى عبدالله – القدس العربي