المأساة السورية ومن أكثر من سبعة أعوام مثال فاقع وبرهان صارخ على الانحدار الأخلاقي الكبير في الساحة السياسية في عالم اليوم، حيث تسود شريعة الغاب وتتم المتاجرة والعبث بمعاناة الأطفال والنساء والضعفاء، وتتقاسم القوى الدولية المكاسب والغنائم وأشلاء الضحايا الأبرياء ولقمة عيشهم. سبع سنوات والجميع يعبث في سوريا وشعبها، منهم من إن لم نقل جميعهم مارس اللعب الاستخباراتي، وآخرون جربوا أسلحتهم بأنواعها وتفاخروا بوقاحة بذلك، ومنهم من تحدث بصفاقة عن تصفية الحسابات والحروب على أرض سوريا حفاظا على بلده ومرابعه من مضار الحروب وتداعياتها.
وآخرون جعلوا من سوريا النازفة والجريحة صندوق بريد يتم من خلاله تبادل جميع أنواع الطرود المفخخة والرسائل الملغمة، وميدانا يتم فيه المواجهة أو التقارب بين الخصوم والتفاوض وعقد الصفقات، والخاسر الأكبر وبشكل مستمر سوريا وشعبها وأجيالها المستقبلية.
تم تأجيج الصراع في سوريا وعسكرة الثورة بتشجيع غربي بشكل عام وأمريكي بشكل خاص، مرة بطريقة مباشرة ومرات عن طريق الوكلاء والسماسرة. ومن أعطوا السلاح من الثوار منعوا من حسم الصراع حين كان النظام يترنح في بدايات الثورة وقبل الانتهاء من صناعة داعش والتدخل الروسي العسكري المباشر، ومن بعد منع أولئك المقاتلين السلاح حين تمكن النظام من التقاط أنفاسه من خلال دعم روسي وإيراني غير محدود. كان المطلوب بشكل واضح تدمير سوريا وإعادة رسم خريطة المنطقة بحيث يكسر عمودها الفقري –العرب السنة- ولا يكون بمقدرة المنطقة النهوض علميا واقتصاديا وعسكريا لعقود وربما لقرون.
كانت الثورة السورية -والتي انتهت من خلال المكر العربي الرسمي والدولي إلى أن تصبح أحداثا وحروبا داخلية- فرصة كبيرة للنظام الدولي وأتباعه ووكلائه من الأنظمة العربية الرسمية، لتحطيم آمال شعوب المنطقة في الحرية والديمقراطية، حتى تبقى أمتنا متخلفة ومنطقتنا أسواقا استهلاكية تتنافس عليها القوى العالمية ويتقاسمونها، ثروات ومقدرات. ومن خلال سيناريو خبيث تحولت جرائم النظام الكبرى ووحشيته إلى أحداث عادية، فتم التعامل مع التعذيب وصوره وكأنها مسرحيات تراجيدية وتم تقنين الحصار والتجويع حتى الموت والتهجير العرقي والمذهبي من خلال إشراف الأمم المتحدة عليه ومباركة المجتمع الدولي له. أمور قد تكون لها صلة وممهدة لصفقة القرن وإسرائيل الكبرى والحديث عن إسرائيل كدولة يهودية وهو أمر محال دون تهجير فلسطيني واسع.
وصل الأمر بتوزيع الأدوار، للوصول بسوريا وشعبها إلى دمار شامل، إلى ما يشبه الأفلام الكوميديا السوداء، فمرة يصرح أوباما بأن الأسد فقد شرعيته وأخرى يرسم له الخطوط الحمراء والتي ما لبثت أن تصبح سوداء تسخر من أطفال سوريا ومعاناتهم. ومرة يتبادل الروس والأمريكان الاتهامات بدعم داعش ثم يعودون للمشادات الكلامية الصاخبة وعلى الملأ، لينتهي الأمر بصفقات فيما بينهم تتضمن كل أشكال الخداع والخلاعة السياسية ونقض العهود والاتفاقيات كما يحصل الآن في درعا وجنوب سوريا وفي ما أسموه مناطق خفض التصعيد منطقة تلو آخرى.
لقد أصبح تدمير مدن السنة وتهجير الملايين واستهداف المستشفيات حدثا اعتياديا وخبرا لا يكاد يذكر، متواريا إن ذكر في الصفحات الخلفية حتى لا يعكر مزاج العالم والعرب ويشوش عليهم متابعة المونديال الكروي في روسيا والتي تقود وبكل وحشية ودموية تدمير سوريا وإباده السنة فيها وتقزيمهم وتحويلهم لمواطنين من الدرجة العاشرة بلا حقوق ولا كرامة إنسانية.
الوكلاء المحليون كانوا العابث الأكبر في الثورة السورية بمؤتمراتهم الداعمة– ظاهريا والهادفة لشراء الذمم والولاءات- وبمنصات المعارضة المختلفة والتي أطلقوها وبشخصيات متواطئة زرعوها في قيادات المعارضة بل جعلوها في الصف الأول. وحتى نكون منصفين، فإن المعارضة السورية فشلت فشلا ذريعا بشقيها السياسي والعسكري وأدت دورا مظلما –مع استثناءات محدودة- فكانت عناصرها إما مخترقة وإما تشتكي سذاجة سياسية وعسكرية بالغة الحماقة. صدقت من أشتهر بغدره وركنت إلى أعداء الحرية في تونس ومصر ليدعموها فيما كانوا يفخخونها من الداخل ويقايضون بدماء السوريين ومعاناتهم القوى الدولية لتعترف بتغييراتهم الداخلية ولتتقبل حماقاتهم ومغامراتهم محليا وإقليميا.
كان جزء معتبر من المعارضة السورية والتي أعدت في كواليس الدول وارتبطت بأجهزتها الأمنية وما تزال، الخنجر المسموم والذي طعن آمال السوريين وطموحاتهم طعمة نجلاء في القلب وفي الظهر. فلم نسمع بمسؤول معارض مما تنقلوا بالعواصم العربية والغربية ونال “شرف” مقابلة رموز المجتمع الدولي، يستقيل من منصبه معتذرا عن فشله وحماقاته وسذاجته، بل نراهم يتنقلون هنا وهناك يلتقون لافروف وغيره وهم في كامل الأناقة واللياقة وتظهر على محياهم البهجة والسرور. في الوقت الذي يجافي النوم وراحة البال كل من امتلك ذرة من الإنسانية وهو يري ويتابع معاناة ملايين السوريين من المكلومين والمهجرين والمحاصرين وممن يتعرضون لوابل من قصف البراميل ويستهدفون بكل أشكال الأسلحة وأنواعها.
ما يحدث في سوريا بداية ونموذج سيعمم على دول المنطقة، وكما لم تشفع للمعارضين السوريين سذاجتهم فلن تنفع الأنظمة العربية مجاملة بوتين ومداهنة ترامب، ففي السياسة الدولية الحالية –ومن خلال المثال السوري- كل متاح مباح في سبيل المصالح، أما الغدر ونقض المواثيق والخداع فهو الأصل وليس الاستثناء!!
ياسر سعد الدين – ترك برس