يبدو أن بعض القوى أو الكيانات السياسية السورية الناشئة، والتي نمت واستطالت في ظروف غير طبيعية، أي في ظل الفوضى والقهر والعنف والتشريد، تعتقد بأن هذه الظروف ملائمة لها لفرض أجندتها وما تعتقد أنه أفكارها على السوريين، في حين أنها في ذلك تفاقم مأساتهم وضياعهم وإحباطاتهم، وتبدد هويتهم الوطنية، كمجتمع بني على التعدد والتنوّع، هذا إضافة إلى أنها في ذلك تقدم خدمة كبيرة للنظام، بأخذها الثورة إلى غير أهدافها الأساسية التي تتوخى تحقيق الحرية والكرامة والمساواة والمواطنة.
وللتذكير فإن أكثر هذه الجماعات لم تنشأ نتيجة حراكات تاريخية، سياسية أو فكرية، في مجتمع السوريين، ولم تراكم تراثاً نضالياً أو تجربة سياسية يعتد بها، بل إنها فقط تستغل الظروف الصعبة الراهنة، في الداخل (أي في المناطق «المحررة») وفي الخارج، لفرض ذاتها وأجندتها، بحكم ما تتمتع به من تسهيلات في هذه الدولة أو تلك، وفي شكل خاص بفضل الدعم المالي الذي يتدفق عليها، وبواسطة الشبكات الخدمية (الصحية والإغاثية والتعليمية) التي تبنيها نتيجة هذا الدعم.
طبعاً أتحدث هنا عن الجماعات ذات الطابع الأيديولوجي والهوياتي المتعصب، لا سيما منها الجماعات الدينية المتطرفة والعنيفة وذات البعد الطائفي، والتي لا تدّخر جهداً في سبيل إغراق مجتمعات السوريين بأفكارها ومفاهيمها، خصوصاً بعد أن باتت تتواجد على شكل ميليشيات مسلحة، أو تستند اليها لبناء استطالات مدنية وخدمية.
من الواضح أننا نقف في مواجهة جماعات غير مؤهلة تماماً، لكنها تتغطى بمنظومة فكرية، بغض النظر عن مستواها او تقييمها، تروّج لأفكار مبسطة أو متخيّلة عن السعي لاستعادة «دولة الخلافة» أو إقامة نوع من «إمارة إسلامية»، والحكم باسم الشريعة، إلى درجة إصدار الفتاوى وتنصيب ما يسمى «هيئات شرعية»، ورفع شعار الجهاد في سبيل الدين، بما في ذلك من اقحام للدين في شؤون الدنيا، واستغلاله في الصراع على السلطة والهيمنة على المجتمع، في محاولة منها لتبرير مواقف وممارسة بعض الجماعات، والتفلّت من المساءلة والمحاسبة السياسيين.
تعمل هذه الجماعات بواسطة شبكات من طبقات متعددة ومتفرعة، بحيث إذا تعثرت إحداها قامت أخرى، بإصرارها على فرض وجودها على السوريين وثورتهم، رغم أن هذه المحاولات تبدد او تضعف الجهود التي يفترض ان تتركز على استنهاض السوريين في مواجهة النظام.
إن أخطار هذه الكيانات او الجماعات في محاولاتها هذه، لا تكمن فقط في تشويه معنى الثورة أمام العالم، وإنما تكمن أيضاً في إثارتها مخاوف السوريين، وتصديع وحدتهم، وتقويض اجماعاتهم، فضلاً عن أنها تضر بالثورة وبشعب سورية وتخدم النظام، الذي ساهم أصلاً، وعن سابق قصد وتصميم، في تسهيل تصدّر بعضها واجهة العمل السياسي المعارض، السياسي والعسكري والخدمي.
يخطئ أصحاب أو دعاة هذه الكيانات في ظنهم أن مثل هذه المحاولات يمكن تمريرها على السوريين من دون الانتباه لها باعتبارها جزءاً من الثورة المضادة، أو على الأقل ضمن المشاريع التي تستهدف مشروعهم الوطني الديموقراطي الذي قامت ثورتهم من أجله.
نحن هنا لا نقصد فقط الكيانات التي لا تعترف بالثورة وتعادي هياكلها وأطروحاتها السياسية الأساسية، والتابعة لكيانات خارجية تكفيرية وإرهابية (مثل «القاعدة»)، ولكننا نقصد أيضاً تلك الجماعات التي شكلت من الناحية الفعلية والمفهومية انشقاقاً أو خروجاً عن ثورة السوريين، بحكم تمسكها بفرض طابعها الهوياتي والطائفي والديني، على رغم وجودها في بعض كيانات المعارضة على شكل جماعات خدمية ومدنية. اللافت أن هذه الجماعات لا تقف في مواجهة الآخرين من خارج أيديولوجيتها ومفاهيمها، بل إن كل جماعة منها تقف إزاء الأخرى، بادعاء أنها هي التي تمثل الدين أو الإسلام والمسلمين، وهذا يتجسد في التصارع والتنابذ بين من يعرفون أنفسهم بـ «أخوة المنهج»، في الاقتتال بين الجماعات المسلحة، وفي التنافس بين الجماعات المدنية على الشبكات الخيرية والتعليمية والخدمية.
أما الحزب الأكبر، أو الذي يفترض انه كذلك، إن بتعريفه لنفسه أو بما يشكله من رأي عام، وأقصد حركة «الإخوان المسلمين»، فيبدو أنها تقع بين مروحة مواقف، فإما ثمة فيها من يجد أن كل هذه الحركات والجماعات تفيد «المنهج» عموماً، ما يخدم الاتجاه العامل لحركة «الإخوان» ذاتها، وهذا إن وجد فهو احتمال خاطئ لأن ما يحدث لا يخدم «الإخوان المسلمين» وبخاصة أصحاب اللون السوري المعتدل طبعاً، أو أنها باتت فاقدة للسيطرة إن بسبب ضعفها أو بسبب صعود هذه الجماعات وتمددها مستفيدة من تعليق الأخطاء التي ترتكبها على الجماعة. وفي كل الأحوال فإن الصمت هو السمة العامة لهذه الحركة السياسية المدنية ذات الطابع الإسلامي، علماً أن هذا يضعفها أكثر، ويأكل من رصيدها، كما أن ذلك ينعكس سلباً على ثقة الكيانات السياسية في المعارضة ببعضها البعض.
ولعل كيانات المعارضة بمختلف ألوانها وهوياتها وأيديولوجياتها معنية بإدراك أن الشراكة المعقودة اليوم، في الإطار الواسع للثورة السورية، ضمن مؤسسات المعارضة المختلفة، لا تعني الانصهار، او الاندماج، أو التطابق، وإنما تركيز الجهود والطاقات على الهدف الأساسي، المتمثل بإنهاء نظام الاستبداد، وإقامة النظام البديل، الذي لا يمكن أن يكون بديلاً بكل معنى الكلمة إلا إذا بني على أساس الحرية والمساواة والمواطنة والديموقراطية وعلمانية الدولة، التي نادت بها الثورة إثر انطلاقتها الأولى. وما يجب ادراكه أيضاً من الجميع أن سورية الجديدة لا يمكن إلا أن تكون إلا لكل السوريين، بكل ألوانهم الطائفية والإثنية والأيديولوجية، أما سورية ذات اللون الواحد، سواء كان إسلامياً أو علمانياً، يسارياً أو يمينياً، عربياً أو كردياً، فهذه لا يمكن أن تقوم، فلا السوريون سيقبلون بها، ولا العالم سيسمح بقيامها، وهي إذا قامت فلن تكون سورية ذاتها، إذ إن ما سيقوم وقتها سيكون على حساب وحدة أرض سورية وشعبها.
على ذلك فإن المعارضة الوطنية الديموقراطية مطالبة بمواجهة هذا التحدي، بمصارحة نفسها إذا كانت ما زالت معنية بالدفاع عن مشروعها وقيمها، لا البقاء كديكور في كيانات معارضة تتحدث عن الديموقراطية والتعددية في حين لا تعبر إلا عن لون واحد اقصائي وتعسّفي. ثمة شيء ينبغي حسمه، قولاً وفعلاً.
الحياة اللندنية