مساء الأربعاء، الرابع من يناير/كانون الثاني الجاري، علمت من مديري أن رحلة ستنطلق بعد أربعة أيام من صقلية إلى عرض البحر المتوسط في مهمة بحث وإنقاذ للمهاجرين، لم أفهم ما يرمي إليه لأول وهلة، سألني إذا كان بإمكاني السفر لتوثيق الرحلة ورواية القصة، أيّ سؤال هذا؟! بالطبع نعم!!
بعد ثلاثة أيام، شهدت إسطنبول؛ حيث أقيم، عاصفة ثلجية غير مسبوقة أوقفت حركة الطيران بشكل كامل تقريباً، لم أستطِع السفر، لكن بعد إرسالي لمنظمي الرحلة، جاءني الرد بأن السفينة التي كان من المقرر لها أن تنطلق صباح الأحد، قد تأجَّلت لصباح الاثنين، ظللت في المطار لعشر ساعات في محاولات يائسة لإيجاد وسيلة أصل بها إلى صقلية، لم يكن هناك شيء يمكنني فعله.
في اليوم التالي، استمر الطقس السيئ، وأُلغيت أكثر من نصف الرحلات المغادرة، ولم تُلغَ رحلة صقلية، الآن أكتب هذه الكلمات من على متن الطائرة.
في هذا المقال والمقالات التي تليه سأحاول توثيق الرحلة كاملة بالصورة والكلمة وبالصوت أحياناً.
تابعوني!
***
يقول مسؤولو منظمة أطباء بلا حدود إن البحر المتوسط قد تحول إلى مقبرة جماعية، لكن البحر لم يبدُ كذلك عندما كانت الطائرة على وشك الهبوط في مطار كاتانيا بصقلية، بدا البحر هادئاً، تقرير الطقس يشير إلى درجة حرارة أدفأ مما تركت عليه إسطنبول بعشر درجات تقريباً، وأثناء هبوط الطائرة كان كل ما أفكر فيه هو الصعوبة التي واجهناها كي نصل إلى هنا.
البداية كانت قبل عدة أيام، عندما علمنا أن السفينة “أكواريوس” التي ستقل طواقم منظمتي أطباء بلا حدود وSOS Mediterranée قد اكتمل عدد ركابها، ما يعني عدم استطاعتنا المشاركة، لكن مكتب أطباء بلا حدود في القاهرة استطاع التواصل لتوفير مكان لشخص واحد آخر!
جواز سفري المصري كان سيصبح عائقاً أمام إكمال المهمة؛ حيث إنني أحتاج إلى تأشيرة شنغن لدخول أوروبا، إلا أن المفارقة تكمن في أنني كنت قد حصلت على تأشيرة قبل شهر واحد فقط للمشاركة في مؤتمر يحضره سياسيون من أوروبا وروسيا والولايات المتحدة وإيران ممن يعتبرهم الكثيرون أهم أسباب أزمة المهاجرين اليوم.
يوم واحد فقط حاولنا فيه ترتيب كل شيء؛ تذاكر السفر، المعدات اللازمة، خطة العمل، الاتصالات بمكاتب أطباء بلا حدود في إيطاليا ومصر وبمقر SOS في هولندا، كل شيء عدا الطقس!
فقُبيل ساعتين فقط من موعد الطائرة، أعلنت السلطات التركية عن إلغاء مئات الرحلات المغادرة من إسطنبول، لكن رحلتي لم يتم إلغاؤها، تحركت إلى مطار أتاتورك عبر الثلوج لأصل بعد أكثر من ساعتين، علماً أن الوقت المعتاد لتلك الرحلة لا يتجاوز عادة الأربعين دقيقة.
(زوجتي قامت بتصوير هذه الصورة أثناء خروجي من المنزل؛ حيث رفضت سيارات الأجرة التي اتصلت بها إيصالي، ما حدا بي أن أمشي بضع مئات الأمتار للوصول لأقرب نقطة يمكنني فيها أن أستقل سيارة أجرة).
بعد دقائق من وصولي لمطار أتاتورك، أعلنت سلطات المطار عن إلغاء الرحلة التي كان من المفترض أن أغادر على متنها، وكان عليَّ أن أنتظر مع آلاف الركاب العالقين أي بارقة أمل لأن ألحق بأكواريوس، التي تستعد للمغادرة في الساعات الأولى من صباح اليوم التالي.
السفينة أكواريوس هي إحدى سفن ثلاث تستخدمها طواقم منظمة أطباء بلا حدود، تجوب البحر المتوسط في دورات rotations منتظمة للبحث عن المهاجرين الذين اضطروا لمواجهة الموت في البحر هرباً من الموت في الوطن. يمكنكم تصور حجم الإنجاز الذي حققته هذه الطواقم إذا ما علمتم أنه منذ بداية عملياتها في أبريل/نيسان 2016 وحتى نهاية نوفمبر/تشرين الثاني، استطاعت الطواقم الطبية والإغاثية إنقاذ 19708 أشخاص من القوارب المتهالكة التي تعبر البحر، وهي نسبة تقارب 1 من كل 7 أشخاص تم إنقاذهم في البحر المتوسط.
(السفينة أكواريوس كما شاهدتها لأول مرة عند وصولي إلى ميناء كاتانيا)
الأمر ليس مشرقاً للغاية، فعلى الرغم من محاولات تلك الطواقم المضنية، ورحلات البحث المستمرة، التي تقوم بها أيضاً مؤسسات حكومية وغير حكومية أوروبية، توفي ما لا يقل عن 4690 شخصاً خلال 2016 فقط غرقاً في المتوسط بزيادة 1000 شخص عن العام الذي سبقه. والموت في البحر ليس القصة المأساوية الوحيدة، فالكثيرون ممن يتم إنقاذهم هم من الأطفال، و88٪ من هؤلاء الأطفال هم من غير المصحوبين بأي من أفراد أسرهم البالغين، كما أن العديدات ممن يتم إنقاذهن يحكين قصصاً مروعة عن الاغتصاب والاعتداء الجنسي في بلدانهم.
(متطوعو أطباء بلا حدود أثناء واحدة من عمليات الإغاثة في المتوسط)
بعد انتظار عشر ساعات في المطار، قررنا أن نخاطر مرة أخيرة، وأن نحجز تذكرة أخرى في اليوم التالي، لم تتوقف الثلوج، ومع ذلك لم تُلغَ الرحلة مثل سابقتها. بعد أقل من ساعتين كنت أخطو أولى خطواتي في مطار كاتانيا الذي يبعد أقل من 10 دقائق عن الميناء الذي ما إن وصلت إليه حتى بدأت الرحلة الحقيقية!
المصدر:هافنغتون بوست عربي