يوروميدان برس — يتناول المقال الآثار الناجمة عن الرسائل المضللة التي تنشرها آلة البروباغندا السورية والروسية، التي لا تتوقف رقعة سيطرتها عن التوسع. ودور الرسائل في خلق حقائق مزورة حول أن كل الأطراف في سوريا، متساوون في إجرامهم، أو أن السوريين هربوا من بيوتهم بسبب الحرب، وليس بسبب الخوف من انتقام النظام والتعذيب الذي هددهم.
امتدت الحرب في سوريا إلى عامها التاسع، فيما دخلت الحرب في أوكرانيا الشرقية عامها السابع؛ لا مجال للمقارنة بين الحربين، إلا أنهما تتشاركان سماتٍ كثيرة — لعل أبرزها الدور الرئيسي لروسيا في كلا البلدين. تم نقاش هذا الدور والدروس التي يمكن أن تتعلمها أوكرانيا من سوريا خلال ندوة على الانترنت عنوانها “دور المجتمع الدولي في تحقيق العدالة والانتعاش الإنساني بعد انتهاء النزاع: دروس من سوريا”، والذي عمل على تنظيمها “اتحاد هلسنكي الأوكراني لحقوق الإنسان” في تموز / يوليو عام 2020، ليسلط الضوء على مسائل الانتعاش الإنساني والعدالة في مرحلة ما بعد الصراع.
فيما عايشت حرباً بات عمرها تسعة أعوام، تحولت سوريا إلى مكانٍ يشهد جرائم ضد الإنسانية وأخرى عسكرية. جرائم لا تحصى ولا حد لها. هذا وتختلف البيانات التي تتناول أعداد الضحايا؛ فمنذ بداية آذار / مارس 2018، قتل 353,900 شخصاً، 106,000 منهم مدنيين. غير أن هذه الأرقام لا تتضمن المختفين من الأفراد، البالغ عددهم 56,900 شخصاً. فيما يقدر أن حوالي 100,000 من الضحايا لم يتم توثيق مقتلهم. هذا وقد أحصى مركز توثيق الانتهاكات، في بياناتٍ جمعها منذ بداية شباط / فبراير 2018، مقتل 185,980 شخصاً، فقدوا أرواحهم جراء القتال. لا يقتصر التضارب على الأرقام وحدها، فقد أشار الخبراء المشاركون في الندوة إلى مفاهيم غامضة وسرديات مضللة تتناول كلها الحدث في سوريا.
دمار وجرائم
أكد إبراهيم علبي، محامٍ في غرف العدل الدولية “غيرينكا 37” ومؤسس البرنامج السوري للتطوير القانوني، أن الجرائم التي ارتُكبت والضحايا الذين سقطوا لم يكونوا نتيجة للحرب في حد ذاتها.
“فعندما نقول، على سبيل المثال، أن “س” من الأشخاص قد ماتوا؛ أو أن “ع” من المشافي تدمرت. الانطباع الذي يتركه التعبير هذا هو أن الصراع كان وحشياً، ومع ذلك حاول أطرافه قصارى جهودهم أن يلتزموا بقوانين الحرب ليكون قتالهم أخلاقياً.. أما الضحايا المدنيون، فلم يكن هناك مهرب من سقوطهم، فهذه حرب. غير أن الصراع في سوريا يتميز باستهدافه المدنيين من خلال التدمير المتعمد للمشافي، ومن خلال التغييب القسري، التعذيب، العنف الجنسي، وارتكاب طيف واسع من الجرائم الممنهجة منذ 2011 وحتى الآن” أضاف علبي.
هذا وتظهر إشكالية أخرى عند استخدام تعبير “جرائم يجري ارتكابها” حسب علبي، ففيه إشارة إلى أن كل أطراف “الصراع” قد ارتكبوا جرائم — وهذه حقيقة — ولكن ينبغي التحقق منها، مشيراً إلى أن الأغلبية العظمى من الجرائم ارتكبها نظام الأسد وحلفاؤه، بمن فيهم روسيا.
“المشكلة هي أننا عندما نخلط بين السناريوهَين على أنهما الحقيقة، بحيث يبدو الأمر كما لو أن كل الأطراف في صراعٍ ما يرتكبون الجرائم، تصبح المساءلة شبه مستحيلة، فنحن لا ندل بالإشارة إلى الجرم على الأشخاص الذين ارتكبوا هذه الجرائم. أي أن الأثر يضعف نوعاً ما”.
الحديث عن الحلول السياسية وعلى النحو الذي أعرب عنه علبي، فإن العديد من الدول تبحث عن ما يسمى الحل السياسي في سوريا؛ كان أحد هذه الحلول المقترحة مؤخراً تشكيل لجنة دستورية تضم ممثلين عن المعارضة، وعن النظام والدول الضامنة؛ فيما تهدف بشكل أساسي إلى وضع مبادئ لدستور ما بعد الصراع في سوريا وترسيخه قانونياً.
إلا أن حلاً كهذا، على حد تعبير علبي “خطر، ومنحدر زلق إذا ما اعتبر كسردية للصراع في سوريا” مضيفاً “أن هذا الحل محاولة لتأطير الصراع كما لو أن 400,00 من السوريين قد قتلوا بسبب مادة في الدستور.”
أكد الخبير السوري أن الدستور لا يقع في جذر المعضلة السورية؛ وبالتالي فإنه لن يؤدي إلى حلها.
دعم إنساني
جرى تسييس الدعم الإنساني في سوريا، لا بل وتجريمه، على الرغم من أهميته البالغة. في هذا الصدد قال علبي أن “السوريين جاعوا حد الموت حرفياً لأن المساعدات مُنعت من الوصول إلى مناطقهم؛ حيث طوق النظام أو حاصر 15 من هذه المناطق” مضيفاً أن إرسال المزيد من المساعدات التي عمدت الدول الغربية على تزويد سوريا بها ليس حلاً، فالصراع في سوريا معضلة من صنع البشر، وليست كارثة طبيعية.
عدد علبي الظروف في المنطقة، مشيراً إلى الشركات التي تربحت بطرق غير قانونية من الدعم الغربي؛ فالشركات على صلة بالدعم المادي الغربي المقدم من أجل التخفيف من انتهاكات حقوق الإنسان المرتكبة من قبل النظام. تمكنت هذه الشركات من استغلال نظام الدعم الإنساني من خلال خلق شركات قانونية في الظاهر، قادرة على استيفاء الشروط الضرورية لتوزيع الدعم، عامدين إلى التقديم على العقود التي تطرحها منظمات الدعم الدولية؛ لتلتف بعدها على العقود وتستخدم التمويل في دعم النظام ذاته المسؤول عن هذه الانتهاكات.
إعادة الإعمار
بالإضافة إلى الدعم الإنساني، يعد ملف إعادة الإعمار من أكثر الشؤون حساسيةً في سوريا، فالحقيقة حول عودة اللاجئين إلى وطنهم، وفقاً لعلبي، تم التلاعب بها كثيراً.
من جهة، تتمسك القوى الغربية بموقفها الرافض لتمويل إعادة الإعمار دون دليل قاطع على عملية انتقال سياسي شاملة؛ بينما تصر روسيا على ضرورة تمويل إعادة الإعمار من جهة ثانية، لكن إصرارها تدفعه غاياتها البحتة. “لدى القوات الروسية ممثلين محليين في سوريا، ممن يريدون المال لينشطوا ويختبروا الأسلحة في سوريا. كما توجد الكثير من الشركات الروسية أيضاً، اهتماماتها تجارية. لكن روسيا لا تملك المال لتدفع لهم”، أكد زعبي.
وهذه هي النقطة التي تبدأ منها روسيا بالتلاعب بلمف اللاجئين، مدعيةً أن تمويل إعادة الإعمار سيمكن اللاجئين في أوروبا ودول الجوار من العودة؛ بينما لن يعود اللاجئون إلى بلدهم بكافة الأحوال، تمنعهم العقبات الاقتصادية، والخوف من الاعتقال والتعذيب، على حد قول زعبي. في الحقيقة، يتم استخدام اللاجئين كورقة رابحة في الدعاية لإعادة الإعمار. العقوبات
شدد علبي في حديثه على أن العقوبات ينبغي أن تستخدم كأداة سياسية؛ وليس كحلٍ سياسي، فالعقوبات لا تتطال مرتكبي الجرائم، وإنما الأشخاص العاديين أيضاً، لا سيما وأن النظام يهتم بشرعيته أكثر من أي شيء آخر — هذه فرصة لتحقيق ضربة ما. قبل التطرق إلى العقوبات أو تقديم الجناة إلى العدالة، يصّر الخبير السوري على أنه لابد من إجراء تحليلٍ شامل لتحديد الأفعال القادرة على تحقيق أكثر النتائج فاعلية. بالإضافة إلى هذا التحليل، لابد من العمل على استعادة حقوق الإنسان وتمكين الناشطين في مجال حقوق الإنسان.
خسارة السردية
أشار علبي أن السوريين ارتكبوا أفظع أخطائهم عندما ظنوا أن العالم على دراية بما يحدث في بلدهم؛ وهو الأمر الذي يبين كيف ظهرت السرديات المحرّفة مع الوقت. فالتقارير الكاذبة، على سبيل المثال، التي قالت أن السوريين يهربون من بيوتهم بسبب الحرب لم تكن تُعبر عن الحالة؛ حيث هرب الناس بسبب التعذيب الذي هددهم. كما أن أكبر الكذبات كان اعتبار كل الأطراف في الصراع خصوم على حد سواء، لن يكون هناك شيء أبعد من هذا الإدعاء عن الحقيقة، لا سيما وأن هذا الخداع قد أخذ في التفشي تساعده على ذلك آلة البروباغندا التي زادت رقعة سيطرتها.
“لا تقللوا من شأن فيسبوك أو تويتر. لقد تركنا فيسبوك. وكان لدينا الكثير من الأشياء السيئة لنقولها لمن تابعوا استخدام فيسبوك في سوريا —’ ثوار الفيسبوك’. هؤلاء لم يفعلوا شيئاً، واكتفوا بمشاركة الأحداث على فيسبوك. لكن عندما تركنا تلك الجبهة، وأُصر أن أسميها جبهة، سيطرت عليها روسيا”.
نشرت حملة من أجل سوريا مقطعاً مصوراً، يظهر فيه معرض يتناول جرائم الحرب التي ارتكبها نظام الديكتاتور بشار الأسد، أمام قاعة محكمة في ألمانيا، حيث عقدت أول محاكمة بخصوص التعذيب الممارس من قبل النظام؛ لكن المتصيدين الروس قدموا وجهة نظر “مزعومة” أخرى حول الموضوع، الأمر الذي دفع الجمهور الأوسع، أوروبا وبريطانيا، للشك في الحقائق عن سوريا.
إثبات الحقيقة
في الحديث عن الحقيقة، تعتبر الخوذ البيضاء أساس ضمان الحقيقة عن ما يجري في سوريا، بينما يقدمون المساعدات الإنسانية لسكان سوريا؛ وهو السبب الذي يجعل منهم هدفاً دائماً لحملات البروباغندا الورسية التي تسعى لتشويه سمعتهم. أكد واين جورداش، وهو شريك إداري في منظمة الامتثال للحقوق العالمية، على أهمية دعم العدالة الانتقالية الشاملة، مضيفاً أن أي مقاربة لابد أن تبدأ بإثبات الحقيقة.
وأشار أن سوريا وأوكرانيا تبلغان قمة الشبه عند الحديث عن نجاح روسيا في تعكيرها الحقائق في كلا البلدين وقدراتها على إبقاء مشاركتها في الصراع في كلا البلدين كذلك طي الكتمان.
“كون الحقائق كشفت أمام الأوكرانيين المدنيين، المجتمعات المتضررة ولأجل السجلات التاريخية التي تقاوم الزمن أمر بالغ الأهمية، لكن الكشف مهم بذات القدر إذ أنه سيمكن أوكرانيا من الضغط على مستوى دولي لضمان استمرار الإجراءات القمعية المفروضة على روسيا وأن سعي روسيا لضم أو فرض سيادتها على شبه جزيرة القرم لن تخبئه روسيا بلجوئها إلى التضليل. ولكي نستطيع فهم ما الذي يحدث تماماً في أوكرانيا الشرقية وأن نستجيب بطريقة تعكس الحقيقة، وليس ما هو مناسب سياسياً في لحظة ما”.
نقلا عن اورينت نت