على الرغم من اللغط الذي أثارته، لم تخرج تصريحات مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، جون برينان، في منتدى آسبن للأمن، عن صعوبة بقاء سورية موحدة بعد خمس سنوات من الصراع الدامي، عن سياق تقديراتٍ أخذ يردّدها، بوتيرة متزايدة، مسؤولو إدارة الرئيس الأميركي، باراك أوباما، بشأن مستقبل سورية. الفرق هذه المرة أن برينان لم يكن يعطي تقييماتٍ أو توقعاتٍ أو يتحدث عن خطة (ب)، كما فعل وزير الخارجية، جون كيري، في فبراير/ شباط الماضي، بل كان كمن يقدم تقريراً يوصّف به واقع الحال.
فعدا عن أن هناك تقاسم نفوذ روسي-أميركي فعلي في أجواء سورية، وعلى أرضها، يسعى الطرفان، بوضوح، إلى تكريسه على أساس جغرافي-سياسي مرتبط بجوهر مصالحهما في المنطقة. ويشكل نهر الفرات الحد الجغرافي الفاصل بين مناطق النفوذ الروسية والأميركية. وتشير تصريحات برينان، التي دعا فيها إلى معالجة الوضع في سورية والعراق وكأنهما شأن واحد، إلى أن هذا الحد الجغرافي قد يتحوّل إلى حد سياسي، فالولايات المتحدة تركّز، منذ تدخلها العسكري في سورية ضد تنظيم الدولة الإسلامية، في سبتمبر/ أيلول 2014، على المناطق الواقعة شرق النهر، متجنبةً الدخول في الصراع الدائر غربه بين النظام والمعارضة.
أما روسيا التي تدخلت في سورية بعد أميركا بعام، فتركّز أكثر جهدها الحربي ضد قوى المعارضة غرب النهر، في ما يسميه بعضهم “سورية المفيدة”. وواقع الأمر أن سورية المفيدة هذه ليس فيها وحدها كثير مما يفيد السوريين، وقد أطلق عليها هذا الاسم أيام الانتداب الفرنسي، وقبل الاكتشافات النفطية شرق البلاد، بسبب التركز العمراني والسكاني الممتد على محور حلب-دمشق.
هنا كان يعيش قبل الأزمة 70% من سكان سورية، وتنتشر أكثر مناطقها الخضراء، حيث الهطولات المطرية المرتفعة نسبياً. لكن هذا الجزء من سورية لا يستطيع أن يعيش من دون قسمه الشرقي (الجزيرة) التي تعد بحق حقل القمح الذي يأكل منه السوريون، ويحوي أكثر احتياطات سورية المؤكدة من النفط والغاز. وبغضّ النظر عن مصالح حليفهم في دمشق، وقدرته على الاستمرار في حكم بلدٍ ليست فيه موارد كثيرة، يركّز الروس على غرب البلاد، لأسبابٍ مرتبطة بحاجاتهم الاستراتيجية، فهم يريدون من سورية ساحلها، لاعتبارين: الحصول على إطلالةٍ على المتوسط، في بيئة صديقة (تنظر إليهم قاعدة النظام في المنطقة باعتبارهم مخلصين، واستعانوا بهم على إخوانهم من السوريين).
والسيطرة على منافذ تصدير النفط والغاز في أية مشاريع مستقبلية في المنطقة، فضلاً عن أن هذا يضعهم في قلب الاكتشافات النفطية والغازية الكبرى في شرق المتوسط.
أما الجزء الشرقي، والذي يضم أكثر ثروات سورية الطبيعية، فهو محلّ اهتمام أميركا التي باتت تدرك أن لا سبيل للقضاء على تنظيم الدولة الإسلامية في العراق (حيث المصالح الأميركية الكبرى)، إلا بحرمانه من عمقه السوري، فسقوط الموصل تم التخطيط له وتنفيذه انطلاقاً من الأراضي السورية، وبعد أن تسنّى لتنظيم الدولة السيطرة على الرقة، ووصل شرق سورية بغرب العراق. لكن، وكما أن “سورية المفيدة” لا تستطيع العيش من دون شرقها، يحتاج الشرق إلى سوقٍ لبيع النفط والغاز والقمح، كما يحتاج منفذاً على العالم، وهو يعتمد، فوق ذلك، على مساعدة غرب البلاد في أوقات الجفاف أو انهيار أسعار النفط، لكن التفكير بمصالح السوريين، ومن أين يأكلون، وكيف يعيشون، لن يكون على رأس أولويات الروس والأميركيين.
على الأرجح، سيكرّس الاتفاق الذي يسعى إليه كيري مع لافروف القسمة بين الطرفين، في ضوء سعي واشنطن إلى بناء قاعدة عسكرية كبيرة جنوب عين العرب (حيث توجد هنا أيضاً بيئة صديقة – الأكراد) في تأكيدٍ لسيطرتها على شرق البلاد، فيما تكرّس روسيا وجودها العسكري في حميميم والشعيرات وغيرها، في تأكيد سيطرتها على الغرب (غير واضح كيف سيتم استرضاء الإيرانيين والأتراك، حتى لا يخربوا مساعي كيري-لافروف).
حجة التقسيم، كما قال برينان، أن السوريين ما عادوا يستطيعون العيش معاً، بعد كل الدماء التي سالت. السؤال بعد ذلك كله: هل يستيقظ السوريون على ما يعد لهم؟ أم يبقون أسرى خنادقهم الضيقة وحساباتهم الصغيرة، ليعودوا بعد مائة عام، ويلعنوا كيري-لافروف، كما يلعنون اليوم سايكس-بيكو؟.
العربي الجديد – مروان قبلان