في قبو غارق بالضوء بمبنى بإحدى ضواحي إسطنبول، وبين جبال من الملابس، يحمل “شكري” الملابس من ماكينات الخياطة وإليها، ويضع الأردية البيضاء في الصناديق المخصصة لها، بينما يعض على مقص بين أسنانه، فيبدو كأنه عامل متمرس، بالرغم من أن عمره لم يتعدّ الثانية عشرة بعد.
فيما يذهب الأطفال في تركيا نهاراً إلى المدرسة، يكون الصبي السوري مشغولاً بالخدمة على ماكينات الخياطة الـ15 والتي يتم تصدير منتجاتها من الملابس إلى السوق الأوروبي، في الأغلب.
شكري طفل سوري كردي، هرب مع عمه من بلدة بشمال سوريا منذ 10 أشهر، ويعمل 60 ساعة بالأسبوع على الأغلب، ويكسب 600 ليرة- أي ما يعادل 200 دولار- ليساعد عائلته، يقول شكري: “لا يمكنني الذهاب للمدرسة لأني أعمل، لكني سأعود للمدرسة مرة أخرى حين نعود لسوريا.” بحسب تقرير لصحيفة “الغارديان” البريطانية.
يوافق مشرف المصنع على أن الصبي الذي يبلغ 12 عاماً فقط، صغير على العمل كل تلك الساعات، لكنه يتنصّل من المسئولية ويقول: “ليس خطأنا أنهم يحتاجون للعمل”.
ليس هناك رقم معين للقوة العاملة السورية غير الرسمية بتركيا، لكن وفقاً لإحصائيات الأمم المتحدة، هناك ما يقارب 2.3 مليون لاجئ مسجل يعيشون بتركيا. مع ما يقارب 9% منهم في معسكرات اللاجئين. والباقون يعيلون معيشتهم اليومية.
ويذكر أن عشرات آلاف السوريين يفضلون إعالة أسرهم بأنفسهم بدلاً من الإقامة في معسكرات اللاجئين التي ترعاها الدولة، وبسبب عدم وجود قوانين تنظم عملهم، فإنهم يضطرون للعمل بشكل غير نظامي وخاصة في قطاع الملابس ثاني أكبر صناعة في تركيا.
تدني ظروف العمل.. وأجور منخفضة
صناعة الغزل والنسيج العملاقة بتركيا هي المورد الرئيسي لأوروبا. ورغم هذا، فهي ليست منظمة. وما يقارب من 60% من العمالة بهذه الصناعة غير مسجلين. مما يعني أنهم يعملون بشكل غير رسمي، وعادةً بدون عقود، أو أية مزايا معتادة للتوظيف.
ويُشكل اللاجئون السوريون قسماً كبيراً من القوى العاملة بها. وبزيارة العاملين السوريين في قطاع الغزل بثلاثة مدن: إسطنبول، ومرسين وأضنة، ستجد عمالة الأطفال، وتدني ظروف العمل، بالإضافة للأجور المنخفضة.
حتى هذا الشهر، كانت الشرطة التركية تعامل السوريين كضيوف مؤقتين ليس لهم الحق في العمل، مما يعني أن اللاجئين ليس أمامهم سوى العمل بشكل غير قانوني. لكن المشهد يتغير على أية حال، وكجزء من الاتفاق مع الاتحاد الأوروبي، أعلنت الحكومة التركية الأسبوع الماضي تشريعات جديدة ستسمح للسوريين الذين مكثوا في البلد أكثر من 6 أشهر أن يتقدموا بطلب للحصول على تصريح عمل.
وقد رحبت المنظمات غير الحكومية بهذه الخطوة مبدئياً. صرحت دانييل مكميلان -الباحثة الرئيسية في مركز موارد حقوق الإنسان: “سنتبع الطرق لتوفير الحماية القانونية للعاملين السوريين اللاجئين. يجب ألا تتهاون الشركات في هذا الأمر، ويجب أن يعلموا أين يوجد السوريون في سلسلة التوريد الخاصة بهم- في مصانع صغيرة- ويجتهدوا في تطبيق الحماية والعمل على استمرارها.”
التمييز في الأجور
الهدف الرئيسي لتصريح العمل الجديد هو التأكد من أن اللاجئين السوريين بتركيا يتقاضون على الأقل الحد الأدنى للأجور. وهو 1,647 ليرة في الشهر-أي ما يعادل 379 يورو. وبسبب وضعهم غير القانوني، وعدم وجود أي قدرة على المساومة، يتقاضى الكثير منهم أقل من هذا المبلغ.
في ورشة أخرى بقبو بإسطنبول، يعمل “عبده” البالغ من العمر 28عاماً والذي هرب من مدينته دير الزور التي مزقتها الحرب بعد صدامات بين تنظم “الدولة الإسلامية” والنظام السوري. وصف عبده التمييز الذي يعاني منه: “تتم معاملتنا باختلاف هنا. يتم الدفع لنا أقل، كما يجب أن نعمل أكثر من زملائنا الأتراك.”
“لأننا لا يمكن أن نعمل بشكل قانوني، فليس هناك أمان في العمل، رواتبنا دائماً تأتي مُتأخرة. حالياً، راتبي مُتأخر 6 أيام ولدي فواتير يجب دفعها.”
والرواتب أقل من ذلك في جنوب تركيا. في مدينة مرسين الساحلية تعمل ليلى التي تبلغ من العمر 20 عاماً، بورشة ملابس “تحت السلم”. هربت مع والديها من حلب منذ ثلاثة أعوام. تقول: “والداي عجوزان على العمل، لذا فعلي ان أعيلها. لكن ما أكسبه لا يكفي”.
ليلى تكسب 1.6 ليرة تركية في الساعة “أنا أكسب 350 ليرة كل شهر، لكننا ندفع 450 ليرة للإيجار وحده. أختي ترسل لنا الأموال من السويد حتى نستطيع تدبر المعيشة”. وليلى تريد العودة للدراسة مرة أخرى “أحلم أن أكون مُعلمة.”
خطر على الماركات الأوروبية
قلة الطابع الرسمي والتنظيم في صناعة النسيج التركية، تعني معرفة أقل بعدد العمال غير المقننين من اللاجئين في سلسلة التوريد للماركات الأوروبية. فالمصانع متوسطة الحجم والورش الصغيرة تهيمن على الصناعة، مع ظروف عمل صعبة في الأغلب وبلا رقابة، لدرجة أن المصانع الكبيرة تستعين بهذه الورش.
كثير من الماركات الأوروبية يتم استيرادها من تركيا بسبب حفاظها على جودة عالية.
فتركيا ثالث أكبر مصدر للملابس لأوروبا، بعد الصين وبنجلادش. في عام 2014 وحده، استوردت أوروبا بما يعادل 10.4 مليارات يورو نسيجاً وملابس من تركيا.
الأردية البيضاء التي يعبئها شكري في إسطنبول تُرسل إلى إيطاليا. وأظهر شكري الماركة الموضوعة على الرداء التي تقول: “بيازا إيطاليا”. وقال المشرف أن الشركة التي تملك هذه الورشة تبيع في السوق التركي، كما تُصدر إلى ألمانيا وإيطاليا. لم تستجب شركة “بيازا إيطاليا” لطلب الجارديان لتعليقها.
بورشة أخرى بإسطنبول حيث يعمل اللاجئون السوريون بـ950 ليرة -223 يورو- في الشهر، لمدة 60 ساعة في الأسبوع على الأقل. الملابس مصنوعة للماركات الألمانية “أورسي” و”مارجيتيس”.
مراقبة على التوريد
ماري كوينج -مطورة العمل والمسؤولة الاجتماعية لشركة أورسي – أخبرتنا أن الشركة تدرك “مسئوليتها في تحسين القيمة، والإدارة، وظروف العمل ككل.” وقالت إن أورسي وجدت من قبل “أموراً حرجة” بأحد المصانع التي تتعامل معها مما أدى لوقف الإنتاج به.
وبإدراك عال لتشعب الأعمال الصغيرة بتركيا قالت: إن تحسين ظروف العمل، لن يتم إلا بالعمل في تحالفات، مثل “مبادرة التجارة الأخلاقية” التي تمثل أورسي أحد أعضائها.
وأضافت “التحديات في قطاع صناعة النسيج لن يتم حلها بعمل منفرد لشركة وحيدة.”
ركزت مؤسسة “فير وير” -غير الحكومية بـ90 عضواً يمثلون أكثر من 120 ماركة- على صناعة الملابس بتركيا.
وحثت جميع أعضائها على تحديد كل نقاط الإنتاج، والتأكد من وجود نظام المراقبة على سلسلة التوريد الخاصة بهم.
كما تنصح رث بعدم قطع العلاقات مع الموردين، إذا وجد لديهم لاجئون. وبدلاً من ذلك: “يجب العمل مع الموردين لإضفاء وضع رسمي للاجئين، كلما أمكن.” وهذا يمكن أن يساعدهم في التقديم لبطاقات الهوية، وتصاريح الإقامة، أو التقدم لتصريح العمل من خلال صاحب العمل. على كلٍ، فقد أقرت رث أن تلك الخطوات ليست سهلة في المناخ الحالي.
هذا بينما تدفع المنظمات الأخرى الشركات صاحبة الماركات أن تكون شفافة بخصوص اللاجئين في سلسلة توريدها. فقد طلب “مركز موارد الأعمال وحقوق الإنسان” من 28 ماركة ملابس كبيرة تحديد الخطوات التي يتخذونها لحماية اللاجئين السوريين. وستُنشر الردود في فبراير.
“مع أعين الاتحاد الأوروبي المسلطة على تركيا وعلى مدى قدرتها على احتواء اللاجئين، فدفعة أوروبية لحقوق العمال وظروف العاملين في البلد من الممكن أن تؤدي لتحسنها كثيراً. ومع زيادة واردات أوروبا من الملابس التركية، من الممكن أن تصبح شركات الملابس هي عامل التغيير. “السماح للسوريين بالعمل قانونياً من الممكن أن يتيح فرصة لشركات الملابس لكي تصبح أكثر انفتاحاً وتعاوناً بخصوص هذه القضية” كما تقول مكميلان.
هذا الموضوع مترجم بتصرف عن صحيفة الغارديان الأميركية، للاطلاع على المادة الأصلية،
هافنغتون بوست