اعتصم في 2 يوليو/تموز الجاري، أهالي مدينة السَّلمية السورية للمطالبة بالماء، ورفعوا لافتات تقول بكل قسوة: “بدنا نشرب مي”، وكأنها عبارة مقطوعة عن تتمة مضمرة: “يا شاربي الدماء”. وفي الرابع من الشهر نفسه، اعتصموا أيضاً أمام مقر إدارة الجيش الشعبي، محملين الإدارة مسؤولية موت أبنائهم في الرملية (لقي حتفه 19 عنصراً في 3 يوليو/تموز الحالي، وقضى على هذه الجبهة منذ بداية العام أكثر من 50 عنصراً). معاناة السلمية اليوم تكثيف لمعاناة “سورية الحكومية”. عطش وتشبيح وموت، جوع وظلام وظلم، كل هذا تحت خوفٍ طاغ من الأعظم، يجعل الأهالي في أسوأ حالٍ يمكن توقعه لمجتمع. المجتمع الذي يجد نفسه تحت رحمة نظام انحطَّ إلى قوة أمر واقع، لا قيمة فيه سوى للقوة، منفلتٍ من أي ضوابط قانونية أو أخلاقية، مستفيداً من غياب قوة تغييرٍ ذات جاذبيةٍ سياسية، بعد أن تحطّم مسعى التغيير، وبرز شبح الجهاديين الإسلاميين وطغى.
ليس صحيحاً القول إنه ليس للفقير ما يخسره. دائماً لدى الإنسان ما يخشى أن يخسره، طالما بقي حياً. يعيش هؤلاء الناس الفقر، يعطشون ويموت أبناؤهم وتُسرق خيراتهم، ويعانون جور الشبيحة. ومع ذلك، لا يعلو احتجاجهم فوق المطالبة اليائسة بالتحقيق والمحاسبة في تفاصيل حادثةٍ ما، جريمةٍ ما، فيما الجريمة الكبرى تبقى فوق الاحتجاج، حرّة تحبل وتلد شتى صنوف الجرائم الأصغر.
في اعتصام أهالي السلمية أمام الجيش الشعبي، احتجاجاً على تهميشهم، وترك أبنائهم يموتون كالعصافير (حسب تعبير إحدى الأمهات)، في إهمالٍ يقتربُ من القتل العمد، لم يكن اللافت ما قاله الأهالي للعميد علي الحمو، المسؤول عن القطاع الغربي في قوات الاحتياط، بل ما لم يقولوه. قال الأهالي ما يحمّل الضباط مسؤولية مقتل أولادهم. وقال الضباط إنهم ينفذّون تعليماتٍ، وانغلقت الدائرة الشريرة. فقط امرأة تجرّأت أن توصل صوتها عبر زحمة الأصوات: ومن أين تأتيكم التعليمات؟ من دون أن تلقى جواباً، ومن دون أن يلتفت إليها أحد، لا من المحتجين، ولا من الضباط.
“المجتمع الذي يجد نفسه تحت رحمة نظام انحطَّ إلى قوة أمر واقع، لا قيمة فيه سوى للقوة، منفلتٍ من أي ضوابط”
احتج الأهالي على التفاصيل التي أوصلت إلى القتل السهل والرخيص لتسعة عشر من أبنائهم. إقدام أحد الشخصيات النافذة على نزع الألغام التي تؤمن حماية أولية للنقطة، لكي تمر الحصّادات لحصد موسم الشعير والقمح واليانسون، بذريعة بيعه لشراء معدّات وتجهيزات للجيش الشعبي، الأمر الذي فتح الثغرة التي دخل منها المهاجمون. غياب الضباط عن كل النقاط التي هوجمت لتوجيه العناصر وقيادة المعركة. اقتصار تسليح العناصر على بارودة روسية (بعد 20 طلقة تكفّ عن العمل، حسب قول والد أحد الضحايا)، من دون وجود أي قاذف أو رشاش. عدم تقديم مؤازرةٍ، لا بالذخيرة ولا بالرجال، على الرغم من الاستغاثات. ثم بدلاً من المؤازرة، ذهبت عناصر التشبيح بغرض التعفيش، أي الاستيلاء على محتويات البيوت في الرملية وسرقة مقتنيات العناصر (درّاجات نارية، موبايلات، مال، ..إلخ) التي لقيت حتفها، في حين تركت الجثامين يومين قبل استعادتها.
وعد الضابط المسؤول بالتحقيق والمحاسبة، ويعلم الأهالي علم اليقين أن التحقيق والمحاسبة في سورية اليوم كلام فارغ. وأن الفساد هو الحقيقة الأقوى. بالفساد، تحوز السلطة على ولاء متين لدائرة ضيقة وفعالة. بالفساد، تتماسك النواة الصلبة للنظام، ثم تتم معالجة الآثار الجانبية له (تذمر الأهالي وتفكك ولائهم للسلطة)، بالقمع المباشر وغير المباشر. كان الأمر كذلك دائماً، وهو اليوم بات أشدّ وألعن. اليوم تعزّز القمع غير المباشر بصورة الجهادي المهووس، القادم من عمق التاريخ لتطبيق “شرع الله على الأرض”، الصورة التي تكاتفت، على رسمها وتعميمها وترويجها وغرسها في الأذهان وتسهيل طغيانها، جوقةٌ متكاملة من اليسار واليمين، ومن أهل السلطة وأهل الثورة، من الداخل والخارج. ساهم الكل بدوره وبطريقته في تكامل صورة هذا الوحش الذي يجعل هؤلاء المحتجين يعضّون على جرح موت أولادهم مجّاناً. ويعلنون، وهم في اعتصامهم واحتجاجهم وطراوة جرحهم، أنهم مستعدّون للذهاب إلى الجبهة للقتال، وإنهم لا يحتجون تهرباً من القتال، وإنهم “مؤمنون بالقضية وبالتضحية من أجل بناء سورية جديدة”، بحسب صفحة شبكة أخبار سلمية وريفها التي تضع على غلافها عبارة: “منحازون تماماً للجيش العربي السوري”.
وعلى صفحة “فاسدو ومرتزقة سلمية” تقرأ: “في الرملية يسقط شباب سلميّة شهداء… وفي داخل مدينة سلمية يقوم عناصر التشبيح بالتجوال في شوارع المدينة، مستعرضين وبقوة السلاح ما يفتقدونه من شجاعة ورجولة وكرامة وأخلاق”. وبعد أن تذكر الصفحة أسماء الضحايا الذين سقطوا في الرملية، تقول: “وكما ترون، من يطلع على أسماء الشهداء، لا يجد أي اسم لأيٍّ من أبناء المسؤولين في سلمية وريفها”.
ما لا يقوله المعتصمون هو ما يلفت النظر. لا يرفعون قولهم إلى مستوىً سياسيٍّ أبداً، يبقى احتجاجهم في التفاصيل وعليها. لا يرون ما وراء فقرهم وموتهم وعطشهم وتهميشهم سوى “أخطاء” يطالبون بتصحيحها “بالتحقيق والمحاسبة”. طالب بعض المعتصمين من أهالي ضحايا الرملية بأن تتم معاملتهم كأهالي السويداء، أي أن يدافعوا عن منطقتهم فقط. باتت الحرب بديهة أو عنصراً ثابتاً. في كل الاحتجاجات، لا يوضع استمرار الحرب موضع التساؤل، لا يتساءل المحتجّون عن معنى كل هذا الموت، لا يطالبون بحلٍّ سياسي، لا يفكرون أصلاً بحلٍّ خارج “سحق الإرهاب”. وفي هذه الاحتجاجات، لا يبدو أن آلية الحكم وإنتاج السلطة وتوزيعها هي موضع احتجاج أصلاً. من هنا، تنبع مأساوية الصورة في السلمية، أن تأمل الضحية بعدالة الجلاد.
وبعد كل شيء، تبقى السلمية نقطةً حية، قياساً على المناطق الأخرى من “سورية الحكومية”، مناطق تعاني المرار نفسه، وتسكت عن الاحتجاج.
العربي الجديد