ألكسندر غولتس
الحياة
الاربعاء 13/7/2016
منذ وقت ليس ببعيد، أصدرت مجموعة من الخبراء الروس – في محاولة لإرضاء الكرملين – تقريراً، جاء فيه أن السياسة الخارجية الروسية الحالية ناجحة للغاية. وروسيا، وفق التقرير، صارت لاعباً مهماً في الشؤون الدولية. ووجبَ حضور قمة حلف شمال الأطلسي في وارسو من أجل التأكد من صحة هذا الكلام. وخُصص نصف نقاط البيان الختامي للقمة، من مجمل مئة وأربعين نقطة، لروسيا، التي تظهر بأنها التهديد الرئيسي للأمن والاستقرار في القارة الأوروبية. ويخلص البيان إلى أن «الأعمال العدوانية الروسية، بما في ذلك النشاط العسكري الاستفزازي … والتهديدات الواضحة و(استخدام) القوة لتحقيق الأهداف السياسية، هي التحدي الأساسي للحلف». ولا يقتصر هذا الرأي على الزعماء المعروف عنهم موقفهم السلبي من الحكم الروسي. فحتّى رئيس الجبل الأسود (مونتينيغرو)، ميلو ديوكانوفيتش، الذي تربط بلاده علاقات وثيقة مع روسيا من قرون ، يقول إنّ العضوية في حلف الناتو هي العنصر الوحيد الذي يضمن سلامة بلاده ووحدتها. وندد وزير الدفاع السويدي (الدولة التي تعتنق منذ ما يقرب القرنين مبدأ الحياد) ب «تصرفات روسية غير اللائقة» ومحاولاتها التهديد بالأسلحة النووية وأعلن عن تعاون أوثق مع الناتو لمواجهة التهديد الروسي.
وشارك في قمة وارسو، إلى أعضاء التحالف، ممثلون من كل البلدان الأوروبية تقريباً، من جورجيا إلى فنلندا، وهم على قناعة بأن الحلف وحده يمكن أن يوفر ضمانات أمنية… وأن يحميهم من «السياسة الخارجية الروسية الناجحة جداً».
ويشير قادة التحالف إلى العلاقة السببية بين ما يحدث اليوم و «نجاحات» روسيا في أوكرانيا. وكان «الاحتواء» لازمة القمة. ويقصد الحلف بالعبارة خطوات عسكرية محدودة. وابتداء من العام المقبل ستنتشر في دول البلطيق الثلاث وبولندا كتيبة مؤلفة من مجموعة تكتيكية متعددة الجنسية يصل عديدها إلى آلاف من الجنود. وفي بولندا، سيشكّل الأميركيون القسم الأساسي، وفي لاتفيا الكنديون، وفي إستونيا البريطانيون، وفي ليتوانيا الألمان. وسارع المسؤولون في روسيا، إلى الاستهزاء بهذه الخطوات المتواضعة بالمقاييس الروسية المحلية. ولكن دواعي الضحك قليلة.
فأولاً، في حال اندلاع نزاع، تضمن هذه الكتائب وصول قوة الرّد السريع «الأطلسية». وثانياً، مرابطة هذه الكتائب هي ضمانة تحرك قادة الدول الكبرى في حلف الناتو على الفور لتنفيذ المادة الخامسة (الدفاع الجماعي) إذا حاولت موسكو تكرار إنجازاتها الأوكرانية. ووعد الرئيس الأميركي بأن ترابط فرقة أميركية (4000 جندي) في أوروبا «على أساس التناوب». واتفق أعضاء حلف شمال الأطلسي على تعزيز قواتهم البحرية في بحر البلطيق والبحر الأسود. فردّت موسكو، في محاولة استباقية، بإعلان خطوات مضادة: نشر ثلاثة أفواج وكتيبة دبابات في الناحية الغربية. وقال مسؤولون في حلف الأطلسي أنهم لن يسمحوا بإعاقة حرية الملاحة في المجال الجوي «الأطلسي». ولا شك في أن نشر روسيا أنظمة الدفاع الجوي المتقدمة، وفي مقدمتها «أس – 400» ، ينشئ منطقة حظر طيران (ضد قوات الناتو) فوق مساحات ضخمة. وثمة نوع من «القباب» فوق شبه جزيرة القرم، وكالينينغراد، وكامتشاتكا، ومناطق من سورية. ولا يقتصر نطاق أنظمة الدفاع الجوي الروسية على شطر كبير من المجال الجوي في بحر البلطيق والبحر الأسود، بل قد يعيق نقل الاحتياط الإستراتيجي الأميركي. ولم يحدد مسؤولو الحلف كيف سيواجهون روسيا في هذا المجال. ولكن يفهم من كلام نائب الأمين العام ل «الأطلسي»، ألكسندر فيرشبو، عن «كبح جماح روسيا» أن الحلف سينشر صواريخ كروز البعيدة المدى على متن السفن والطائرات. وهذا، سيؤدي إلى مرحلة جديدة من سباق التسلح، التي بدأت بالفعل.
واقترح ينس ستولتنبرغ عشرات المرات ترك موضوع الحرب الباردة للتاريخ. لكن إذا لم يكن ما يجري حرباً باردة، فما هو إذن؟ ويرى الخبير الروسي البارز، ديميتري ترينين (وهو شارك في حلقات نقاش موازية لقمة وارسو) أن عبارة «الحرب الباردة» غير دقيقة. ويشير إلى أن القوى المتواجهة اليوم غير متكافئة، على خلاف ما كانت عليه في المرحلة السوفياتية. وعدم التكافؤ يحمل الطرف الضعيف، أي روسيا، على القيام بإجراءات متسرعة محفوفة بالأخطار، مثل ضم شبه جزيرة القرم. وفي الحرب الباردة السابقة، كان ثمة قواعد و»خطوط حمر» لم يجرؤ أي من الأطراف على تخطيها. ولذا، يدعو الخبير الروسي إلى وقف التصعيد العسكري بين روسيا والناتو، والتفاوض على القواعد الجديدة للتعايش السلمي. ولكن أياً من الطرفين غير جاهز لمثل هذه المحادثة. وفي الدردشة مع الصحافيين الروس، وافق ينس ستولتنبرغ من حيث المبدأ على أن الحوار حول تدابير بناء الثقة العسكرية، لمنع حوادث محتملة في سياق النشاطات العسكرية البرية والجوية، واجب بين الناتو وروسيا. ولكنه شدد على تعذّر غضّ النظر عن ضمّ شبه جزيرة القرم والإجراءات الروسية في جنوب شرقي أوكرانيا. وهذا، بصراحة، يعني الوقوف أمام طريق مسدود. ودار الكلام في وارسو على أن القمة هذه هي «منعطف» سيخلق «واقعاً جديداً». ولكن هذا الواقع الجديد يبدو إلى حدّ كبير مشابهاً للقديم الذي حسبت أوروبا أنها تخلصت منه منذ ربع قرن. فكأن التاريخ يعيد نفسه، ويعود الواقع أدراجه اليوم، وعلى الكرملين أنّ يلقي اللائمة على نفسه. فما يجري هو نتيجة مباشرة ل «نجاحات السياسة الخارجية الروسية».
* خبير عسكري، عن موقع «يجيدنفني جورنال» الروسي، 11/7/2016،
إعداد علي شرف الدين