تحوّلت المدن القديمة ومواقع التراث العالمي في سوريا إلى أراضٍ خراب من الركام المخضّب بالدماء، حيث تتناثر أحذية الأطفال وألعابهم. لقد لقي نحو 300000 سوري مصرعهم، فيما وصل عدد النازحين إلى 11 مليوناً.
إن كان من شخص يتحمّل المسؤولية في هذه المأساة المستمرة منذ أربعة أعوام فهو بشار الأسد الذي أوعز لجيشه بذبح مواطنيه بدلاً من الإصغاء إلى المطالبة الشعبية بتنحّيه من السلطة. يتمسّك بالكرسي على حساب المصلحة الوطنية، وهو مسؤول عن تدفّق الإرهابيين إلى سوريا.
الأسد هو أكبر مجرم حرب في الزمن المعاصر، لكن ما دام ينعم بالأمان في الأحضان الروسية، يمكنه أن ينام مطمئناً.
الحصانة مضمونة بالنسبة إليه، أولاً لأن سوريا ليست عضواً في المحكمة الجنائية الدولية، وثانياً، لأنه على يقين من أن مجلس الأمن الدولي لا يستطيع إحالته إلى لاهاي وذلك بفضل حق النقض (الفيتو) الذي تتمتع به روسيا. تسخر هذه الأخيرة من القوانين والمؤسسات الدولية التي أقيمت لمحاسبة القادة على ارتكابهم جرائم ضد الإنسانية.
أكثر ما يقلقني هو درجة العجز التي بلغها المجتمع الدولي، على المستويَين الدبلوماسي والعسكري. يُستخدَم مستقبل الأسد ورقة مساومة في لعبة النفوذ الجيوسياسية المعيبة، حيث تُعتبَر أرواح السوريين أضراراً جانبية.
لا علاقة لدفاع بوتين عن الأسد بالعلاقة الشخصية القوية بين الرئيسَين. فبقاء الأسد يتوقّف فقط على مدى منفعته للمصالح الروسية:
الحفاظ على القاعدة البحرية الروسية في ميناء طرطوس – وهي القاعدة الوحيدة التي تملكها روسيا في أعماق المياه في المتوسط.
الامتثال لمطالب إيران، الحليفة الأساسية لروسيا في المنطقة، والتي تسعى إلى الإبقاء على سيطرة النظام السوري على العاصمة دمشق والساحل المتوسطي والمناطق الواقعة في وسط البلاد والتي تشكّل ممراً للأسلحة الإيرانية المتوجّهة إلى “حزب الله”، عميل إيران في لبنان.
ضرورة أن تثبت موسكو لحلفائها أنه لن يتم التخلي عنهم في الأوقات العصيبة، وتشجيع الشركاء الإقليميين المتحالفين مع الغرب على التحوّل نحو دائرة النفوذ الروسي.
فرض النفوذ الروسي في الشرق الأوسط من خلال تكتّل روسي – سوري – إيراني (وربما عراقي) غير رسمي.
لسوء الحظ، فإن تردد الرئيس الأميركي باراك أوباما في وقف حمام الدماء قبل بضعة أعوام إبان استخدام النظام للأسلحة الكيميائية، وعدم فعالية الهجمات الجوية التي يشنّها التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة ضد “داعش” منذ عام تقريباً، وعدم استعداد أوباما لنشر قوات برية، تركت فراغاً تقدّمت روسيا لملئه.
لقد كان الفشل عنوان سياسة أوباما في التعامل مع الملف السوري.اضطُرَّت الولايات المتحدة إلى التخلّي عن برامجها لتدريب الثوّار “المعتدلين” وتسليحهم، لأنه في غياب الأسلحة الثقيلة، لا يستطيع هؤلاء الثوار أن يضاهوا المجموعات الإرهابية الأفضل تسليحاً.
ومنذ تسلّمت روسيا زمام المبادرة، تسعى الولايات المتحدة للحاق بالركب عبر تصعيد الهجمات الجوية ونشر كتيبة من القوات الخاصة مؤلّفة من 50 عنصراً للعمل إلى جانب المقاتلين الأكراد والعرب الذين يخوضون معارك ضد تنظيم داعش.
إلا أنه ليست لدى البيت الأبيض خطط لمساعدة قوات المعارضة التي تقاتل من أجل إسقاط النظام، بحسب ما خلص إليه السناتور الغاضب، ليندسي غراهام، أخيراً، خلال استجواب وزير الدفاع آش كارتر ورئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة، الجنرال جوزف دانفورد، حول أهداف الإدارة الأميركية في جلسةٍ عقدتها لجنة الخدمات المسلحة في مجلس الشيوخ.
وقد أُرغِم كارتر، على وقع الاستجواب القاسي من النائب المخضرم، على الإقرار بأن الاستراتيجية الأميركية تقتصر على مساعدة الثوّار الذين يحاربون داعش. فور سماع هذا الجواب، استشاط غراهام غضباً: “تقاتل روسيا وإيران وحزب الله من أجل رجلهم، ونحن لا نحرّك ساكناً لمساعدة الأشخاص الذين يريدون تغيير سوريا نحو الأفضل عبر التخلص من الديكتاتور في دمشق”.
أضاف: “إذاً ما فعلتموه، أيها السادة، بالاشتراك مع الرئيس، هو تسليم سوريا إلى روسيا وإيران. قلتم للسوريين الذين لقي مئات الآلاف منهم مصرعهم: “نحن قلقون بشأن التسوية السياسية أكثر من قلقنا بشأن ما سيحدث لاحقاً…””.
لقد أكّد القادة الغربيون، بما فيهم الرئيس أوباما، في مرحلة معيّنة، أن الأسد هو المشكلة وطالبوا برحيله على الفور. لكن على ضوء التدخّل العسكري الروسي، يعمدون إلى تليين موقفهم، مشيرين إلى أنه بإمكان الرئيس السوري البقاء في منصبه خلال مرحلة انتقالية تفضي إلى تشكيل حكومة انتقالية يمكن أن تشارك فيها شخصيات رفيعة من النظام الحالي.
لقد تخلّوا عن مبادئهم من أجل السياسة الواقعية. بعبارة أخرى، انكفأوا حفاظاً على مصالحهم الخاصة، ما يجعلهم يبدون ضعفاء. في مختلف الأحوال، ما الذي يمنح القوى الأجنبية الحق في عقد صفقات من دون موافقة ممثلّين عن مختلف الأفرقاء والفصائل في سوريا؟
لقد بذل السوريون أرواحهم وضحّوا بذويهم وأولادهم في سبيل التحرّر من نظام استبدادي، لكنهم استُبعِدوا من المفاوضات. لم توجَّه دعوة واحدة إلى أي سوري للمشاركة في المباحثات الأخيرة التي جرت في فيينا، ولا حتى بصفة مراقب.
جلس وزراء الخارجية في 16 بلداً – ومنهم وزير خارجية إيران، عدوّة الدول العربية – حول الطاولة لمناقشة مصير السوريين، وهذه مضيعة للوقت لأن بعض الحاضرين جاؤوا فقط بهدف تعطيل إحراز أي تقدّم حقيقي.
أما إيران، أكبر لعنة على الاستقرار الإقليمي، فقد كُرِّمت بتوجيه دعوة إليها للمشاركة في المحادثات بدلاً من إنذارها. ليست لدى إيران أية نيّة بتقديم تنازلات، وخير دليل على ذلك تهجّمها على السعودية التي اتّهمها نائب وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، بتأدية “دور سلبي”، فيما هدّد بانسحاب بلاده من جهود السلام في حال تبيّن أنها غير بنّاءة. ليتها تفعلها وتنسحب!
سيتمكّن السوريون من اختيار حكومتهم المقبلة في صناديق الاقتراع، وفقاً لوزير الخارجية الأميركي جون كيري ونظيره الروسي سيرغي لافروف اللذين قالا للمراسلين إن جميع السوريين داخل البلاد وخارجها على السواء – بما في ذلك اللاجئون – سيتمكّنون من الاقتراع.
هل هذه دعابة؟ غالب الظن أن سنوات طويلة ستنقضي قبل التمكّن من تنظيم انتخابات حرّة ونزيهة، فيما يستمر النظام باستخدام البراميل المتفجرة، ولا تزال أكثر من 40 مجموعة إرهابية ومتشدّدة تسيطر على مساحات شاسعة من الأراضي السورية.
يحزنني أن العالم عاجز عن التحرّك لإحلال السلام في سوريا. كفى مؤتمرات واجتماعات! كفى كلاماً! المطلوب هو تحرّك حاسم كي تتمكّن العائلات السورية التي تشق طريقها بصعوبة مع الأطفال الصغار تحت وطأة البرد القارس في أوروبا، من العودة إلى ديارها.
هل تهتم الولايات المتحدة أو روسيا أو إيران حقاً بمعاناة أولئك المساكين أم أن ما يهمّها هو نفوذها أو مصالحها الاقتصادية؟ روسيا هي ركيزة الدعم الأساسية، فلولا دعمها، لما تمكّن النظام السوري من الصمود حتى الآن – ويجب إقناع بوتين بالكف عن مساعدة الأسد وعن إطلاق يده للتصرّف كما يحلو له.
يحتاج السوريون إلى طيّ الصفحة قبل أن يتمكّنوا من المضي قدماً بعملية المسامحة والمصالحة. فكرة السماح للأسد بعيش حياة رغيدة في طهران غير مقبولة بالنسبة للأشخاص الذين خسروا كل شيء بسببه. لقد أُهدِر الكثير من الوقت، وبتنا نعلم الآن، مع ما يثيره ذلك من قلق، أن المجتمع الدولي مفهوم عقيم لا طائل منه.
أمام الواقع الذي نعيشه اليوم بوجود بلدان تسعى خلف مصالحها الخاصة وتتباهى بقيمها في حين أنها تتنافس على النفوذ والمكاسب من دون أن تكترث للاعتبارات الإنسانية، أصبحنا نعيش في عالم تنهش فيه الكلاب بعضها بعضاً، ويحكمه أولئك الذين يملكون ترسانة الأسلحة الأكبر.