كشفت الثورات المضادة زيف الشعارات المرفوعة، خصوصاً المتعلّقة بحقوق الإنسان والديمقراطية، وثبت أنّ ما رفع على أساس أنّه قناعة، كان في حقيقة الأمر قناعاَ يخفي وراءه أهدافاَ أخرى تعاكس الإرادة الشعبية. كما سقط عن المنظمات الدولية اللباس الإنساني، بعد توالي المجازر، واستمرار السكوت أو بقاء الردود المحتشمة، المنحصرة في الأقوال، والجرائم التي يرتكبها النظام الأسدي في حق الشعب السوري. وهذا مقياس حقيقي لمدى صدق الشعارات، وتَوّضح كل شيء، وتوفيت المنظمات الحقوقية هناك، منها من ذهب، مع بداية القتال، ومنها من قتل على الشاطئ مع إيلان، وهناك من مات في صورة عمران. والآن، بعد توالي الأيام واستمرار سيلان الدماء، توفي المجتمع الدولي بقنابل النابالم الحارق المحرّمة دولياً، لتخلصه من ألمه، بعد معاناة طويلة مع المرض.
يوم القيامة في حلب، عبارة جعلتها صحيفة نيويورك تايمز، قبل أيام، عنواناً لمقالها المتعلّق بالغارات الجوية للنظام وروسيا على حلب، بعد أن كانت طائراتهم قد قصفت أحياء المدينة تحت سيطرة المعارضة، لليوم الثامن على التوالي، بالأسلحة المحرّمة دولياً، مخلّفة بذلك عشرات القتلى والجرحى.
وبشأن هذه التطورات، انعقدت جلسة استثنائية لمجلس الأمن، وتحدّث فيها المبعوث الأممي الخاص إلى سورية، ستيفان دي ميستورا، حيث قال إنّ ما يجري في حلب يرقى إلى جرائم الحرب، ودعا إلى فرض هدنة ليومين، لوصول المساعدات الإنسانية إلى المدينة، كما شدّد على ضرورة إتمام الاتفاق الذي كانت قد توّصلت إليه روسيا وأميركا، وعدم قبره مع أنقاض حلب. كلّ هذا الكلام المعسول، الذي توّجه به دي ميستورا إلى مجلس الأمن يمثل استمراراً لسياسة الأمم المتحدة “الكلامية”.
فشلت واشنطن وروسيا في فرض الاتفاق الذي توّصلا إليه على المعارضة السورية، والذي يهدف إلى تشتيت الفصائل المقاتلة وتمزيقها، عبر ما ورد فيه، سواء بذكر كلمة “فصل” بالاسم، أو بغير ذلك. فقد يكون ما جاء فيه نقطةً خلافية بين الفصائل، بحيث توافق بعضها، وترفض أخرى، إضافة إلى أنّ كلمة فصل قد وردت، وتستهدف “جبهة فتح الشام” أقوى الفصائل المعارضة في سورية. ومن جهة أخرى، فلو كان هذا الاتفاق في صالح الشعب السوري والفصائل المقاتلة، لما وافق عليه نظام بشار.
بات على الدولتين اللتين تتحكّمان في الساحة السورية، روسيا وأميركا، أن تحاولا “إجبار” الفصائل المعارضة على القبول بالاتفاق. أولاً، من خلال تكثيفهم للغارات الجوية التي جعلت من حلب بحراً من الدماء، وساحة للجثث. وثانياً، تمديد الصراع، والتغطية على ذلك بتبادل الاتهامات، حيث ما فتئنا نسمع اتهامات متبادلة بين موسكو وواشنطن، ومن جديدها ما قالته مندوبة الولايات المتحدة الأميركية في مجلس الأمن، سمانثا بارو: “أفعال روسيا في سورية وحشية، وليست محاربة للإرهاب، وروسيا لن تقول الحقيقة مطلقا بشأن سورية”.
إضافة إلى الاتهامات التي صدرت من موسكو في حق واشنطن، ولعلّ أبرزها حين اتهمت روسيا أميركا بدعم “داعش”، بعد أن قتلت طائرتها بالخطأ 80 جندياً لنظام الأسد، وهناك أمثلة كثيرة، منذ بداية تدخل البلدين في سورية، والملاحظ أنّ هذه الاتهامات زادت، أخيراً، وهذا للتغطية على ما يدور بين روسيا وأميركا تحت الطاولة، عسى أن تقبل المعارضة بما يتفقان عليه.
لو قتل طفل في دول غربية لنكست الأعلام أياماً، وصرخ الإعلام شهوراً، وسارع البلدان إلى نعت الفعل بالعملية الإرهابية المبنية على الحقد والكراهية… إلى غير ذلك من الأوصاف، لكن الجرائم التي تقع في حلب يومياً، بقتل الأطفال والنساء، وإغراق المدينة في أنهار الدماء، وجعل أيام السوريين كلها عناءً، والوصف الذي أطلقته “نيويورك تايمز”، يلامس الواقع، لكن ليس يوماً، بل أيام القيامة.
يحتاج هذا كله من روسيا وأميركا والأمم المتحدة ومجلس الأمن، وكلّ المنظمات التابعة لهم، خمس سنوات قابلة للتمديد، “لمحاولة” حلّ الأزمة. خمس سنوات ولا زال المجتمع الدولي “يحاول” فقط، ولم يقدر على ذلك. هذا كله يدل، من جهة، على سياسة الكيل بمكيالين التي يتعامل بها الغرب مع الشعوب المستضعفة، ومن جهة أخرى، على موت الإنسانية في نفوس الإدارات الغربية، ما يعني موت كل المنظمات الدولية، وموت المجتمع الدولي.
العربي الجديد – شفيق عنوري