رغم كل التفاهمات بين أنقرة وواشنطن حول الملف السوري وآلية حله والأدوات اللازمة من أجل إيجاد مخرج للشعب السوري من رحى “طاحونة” الحرب، يبقى الخلاف المحوري حول دور واشنطن بدعم وحدات حماية الشعب الكردي قائماً حتى اللحظة، الوحدات الكردية التي تراها أنقرة هي امتداد لحزب العمال الكردستاني، شائع السيط ولكن ضمن الأراضي السورية، وتنبع تخوفاتها من خطر سيطرة هذه المليشيات الكردية المسلحة على مناطق واسعة في الشمال السوري، الأمر الذي يمهد لقيام “كانتون” انفصالي كردي في شمال سوريا، مما يشكل خطراً محتملاً حقيقياً على وحدة الأراضي التركية، بناءً على فرضية تحول هذا الكانتون إلى بؤرة نشاط مسلح ذات صفة رسمية لتدريب وتسليح مقاتلين أكراد، طالما أزعجوا الحكومات التركية المتعاقبة من خلال نشر الفوضى وعمليات القتل والاستهداف بحق عناصر من الجيش والأمن التركيين خلال ثلاثة عقود من الزمن، على الأقل هكذا تشعر أنقرة.
تصريحات متناقضة:
بعد محاولة عدد من المسؤولين الأتراك “البارزين” طمأنة أنفسهم، وطمأنة الشعب التركي في الداخل، بأن الأمريكيين كانوا قد وعدوهم في وقت سابق، بعزمهم سحب السلاح الذي قدمته واشنطن للأكراد من أجل حرب الوكالة التي يخوضونها نيابة عن الولايات المتحدة في سورية ضد مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية، يعود الأمريكيون للإلتفاف على الإدعاءات التركية من جديد بتصريحات جديدة تشير إلى خطط واشنطن المستقبلية، التي لا تعتبر المليشيات الكردية مجرد أدوات لتنفيذ المخططات الأمريكية في سورية، بل هم شركاء حقيقيون، تعول واشنطن على دورهم الحالي، وسيكونون محل ثقة أمريكية مستقبلاً لتنفيذ أجندات قد تضع تركيا في مأزق حقيقي من خلال استمرار تدفق السلاح الأمريكي للأكراد.
هذا ما حمله تصريح وزير الدفاع الأمريكي الأخير “جيمس ماتيس” والذي قال:
“ربما تحتاج الولايات المتحدة الأمريكية إلى إمداد الوحدات الكردية بأسلحة ومعدات حتى بعد سيطرتهم على مدينة الرقة وانتزاعها من قبضة تنظيم الدولة الإسلامية”..
وبذلك يكون “ماتيس” قد ناقض تصريحاته السابقة لنظيره التركي “فكري إيشك”، حول نية واشنطن بسحب السلاح من الوحدات الكردية بعد انتهاء معركة الرقة، وهذا هو التعهد الذي بنت عليه تركيا آمالها بانتهاء قريب لدور الأكراد في الشمال السوري.
القصف التركي الجديد:
وعقب التصريحات الأمريكية التي جاءت على لسان وزير الدفاع في إدارة ترامب، قصفت المدفعية الثقيلة التابعة للجيش التركي مواقع عسكرية تابعة لوحدات حماية الشعب الكردية في منطقة عفرين غربي حلب، وذلك رداً على مصادر إطلاق النار من الجهة السورية على مواقع لجنود أتراك بالقرب من منطقة الحدود التركية – السورية، بحسب مصادر تركية رسمية ولم يعرف حتى اللحظة حجم الخسائر البشرية والمادية جراء القصف التركي المركز على مواقع الوحدات الكردية.
ولا تعتبر هذه الحادثة هي الأولى من نوعها، فمنطقة الحدود السورية – التركية المقابلة، تشهد بين الفينة والأخرى قصفاً تركياً مركزاً على مواقع مختلفة للأكراد، في ظل استمرار الحكومة التركية بدفع تعزيزات عسكرية ضخمة إلى المنطقة المحاذية لعفرين في ريف حلب الغربي، مما دفع بالعديد من المحللين العسكريين لتوقع قرب بدء عملية عسكرية ضد الوحدات الكردية، يقوم بها الجيش التركي مع عدد من الفصائل العسكرية المعارضة على غرار عملية “درع الفرات” في منطقة الباب وجرابلس شمال وشرق حلب.
وأرجع لواء المعتصم التابع للجيش السوري الحر، سبب الدفع بالتعزيزات العسكرية التركية الأخيرة إلى فشل ما أسماها عملية السلام بين تركيا والجيش الحر من جهة، والوحدات الكردية من جهة أخرى برعاية التحالف الدولي، والتي كان من المتوقع أن يتم فيها تسليم كل من تل رفعت وعين دقنا ومنغ وغيرها من المناطق التي احتلتها الوحدات الكردية وهجرت أهلها في وقت سابق، إلى فصائل المعارضة السورية المدعومة من أنقرة.
هل يستمر التصعيد؟
بالتأكيد هي خيبة أمل كبيرة لدى الأتراك بعد تراجع وزير الدفاع الأمريكي عن تصريحاته التي وعدهم فيها بسحب كامل السلاح من يد الأكراد، وعدم ثبات نهج السياسة الأمريكية مؤخراً في المنطقة وخصوصاً استمرار دعم الأكراد واستخدامهم كورقة ضغط واضحة ضد تركيا على حساب العلاقات التاريخية المشتركة بين البلدين، كل هذه الأمور تضع أنقرة أمام خيارات صعبة ومحدودة، خصوصاً بعد مساهمة تركيا مع الولايات المتحدة الأمريكية في محاربة تنظيم الدولة في سورية، وقيام واشنطن بتحجيم دور تركيا فيها، وإسناد مهمتها للأكراد بالكامل.
إذن النقطة الخلافية حول استمرار واشنطن بدعم الأكراد، لن تريح الأتراك الذين ربما يجدون أنفسهم في لحظة ما مجبرين على خوض معركة عسكرية كبيرة ضد الوحدات الكردية غربي حلب في منطقة عفرين بعيداً عن الرغبة الأمريكية بهدف كسر الحلم الكردي من المنتصف ومنع وصل كانتون شرق الفرات بغربه، مع الأخذ بعين الاعتبار غض الطرف الروسي عن هكذا عملية نتيجة تفاهمات معينة مبنية على أرضية مؤتمرات أستانة، بما يخدم مصالح هذا الحلف الجديد بين كل من روسيا وإيران وتركيا، مما سيزيد من حالة الانقسام في صفوف الثوار السوريين الذين سيجدون أنفسهم فجأة رهينة بأيادي الطرفين المتحاربين “روسيا وحلفائها، وأمريكا وحلفائها”، ومجبرين في نفس الوقت على الالتزام بتعهداتهم مع الطرف الداعم الذي اعتبرهم شركاء، ولكن هم في الواقع عبارة عن أدوات فقط..
فالأيام القادمة ملئ بالمفاجآت التي قد تغير الخارطة العسكرية على الأرض، وقد تجر المنطقة إلى حرب إقليمية من أجل تصارع نفوذ الأطراف الدولية لتحقيق مآربها..
المركز الصحفي السوري – حازم الحلبي.