على مدى العقود القليلة الماضية، شهد العالم انتشار نوع جديد من الثورات. بدلًا من تلك الثورات التي يطلق عليها اسم “التفاوضية“، “الديمقراطية“، “الانتخابية“، “الملونة“، “غير العنيفة” أو “غير المسلّحة“، تجنبت هذه الثورات إلى حد كبير الأساليب العنيفة، وأصبحت سمة مميزة في السياسة الدولية المعاصرة. منذ محمد رضا بهلوي شاه إيران السابق، الذي أُطيح به في يناير عام 1979 نتيجة احتجاجات وإضرابات بلا هوادة، واجه الطغاة والأنظمة في الفلبين، وشيلي، وتشيكوسلوفاكيا وألمانيا الشرقية، وإندونيسيا، وصربيا وأوكرانيا وجورجيا وتونس و مصر – على سبيل المثال لا الحصر – نهايتهم السياسية بطريقة مماثلة.
وعلى الرغم من أنَّ المكاسب طويلة الأجل التي تحققت في أعقاب تلك الثورات وغيرها من الثورات غير المسلّحة كثيرًا ما أصابت أنصارها بخيبة أمل، إلّا أنَّ قدرتها على الإطاحة بالحكام المستبدين من خلال استخدام تكتيكات اللاعنف -أحيانًا يُشار إليها باسم “المقاومة المدنية” – تشكّل لغزًا كبيرًا ف مجال العلوم الاجتماعية. كيف يمكن أن نفسّر أن الأنظمة الشمولية القمعية قد تنهار على أيدي محتجين مسلحين بشعارات وعزيمة فقط؟ ولماذا تفشل بعض المحاولات في الثورات غير المسلّحة في الإطاحة بالطغاة، على الرغم من أن هذه الحركات قد تبدو مماثلة للحركات الناجحة؟
في كتابي الأخير، أجادل أن التركيز على الخطاب حول الديمقراطية وحقوق الإنسان يمكن أن يساعدنا على فهم لماذا الشاه في إيران، وزين العابدين بن علي في تونس وحسني مبارك في مصر أثبتوا أنهم أكثر عرضة للخطر أمام التحديات السلمية على عكس محمود أحمدي نجاد في إيران، ومعمر القذافي في ليبيا وبشار الأسد في سوريا. وفي ظلّ أنَّ قادة إيران، وتونس ومصر قد أسسوا حكمهم على علاقات وثيقة مع الغرب -وبشكل أكثر تحديدًا على الفوائد الاقتصادية والسياسية الناتجة عن الإيجارات الجيوسياسية- لكنهم وجدوا أنفسهم مجبرين على التصرف بطريقة مقبولة لدى رعاتهم الغربيين. وقد فعلوا ذلك من خلال تحويل أنظمتهم إلى “ديمقراطيات زائفة”، وهذا شكل من أشكال الحكم الذي يحتضن، خطابيًا، القيّم الغربية الليبرالية مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان دون أي نية للالتزام بالواجبات المتوافقة معها.
وطالما أنَّ الشاه، وبن علي ومبارك يفعلوا كل ما بوسعهم لتأييد حقوق الإنسان أو إجراء انتخابات (ليست عادلة)، فإنَّ قادة الغرب يمكنهم غض الطرف عما يفعلونه بشعوبهم والادّعاء أنه في حين أن الأمور ليست مثالية، إلّا أنَّ العالم الديمقراطي ليس في تعاون وثيق مع الحكام المستبدين الذين ينتهكون حقوق الإنسان. وبالتالي، فإنَّ هؤلاء السلطويين بنوا ديمقراطيات زائفة من أجل تعزيز صورة محترمة أمام الجمهور الدولي، مجرد تمثيليات سهلّت الدعم الغربي وسمحت لهم بالاستفادة من الرعاية الغربية المتواصلة.
ومع ذلك، كان هناك ثمن باهظ لهذا الالتزام الزائف بالقيم الأساسية للغرب. أدركت فصائل المعارضة في هذه البلدان الثلاثة أن تبني حكوماتهم لهذه المبادئ يمكن استغلالها ضدهم. ووفقًا لذلك، سعت منظمات حقوق الإنسان والعديد من الناشطين المؤيدين للديمقراطية لعقد قادتهم للمساءلة عن طريق الإشارة إلى التناقضات بين الخطاب والواقع، في كثير من الأحيان بدعم من منظمات حقوق الإنسان في الخارج. ونتيجة لذلك، اضطرت الأنظمة الثلاثة لإعادة التأكيد على التزاماتها بالمبادئ الديمقراطية، مما جعلها أكثر عرضة للضغوط والانتقادات.
في إطار هذا السياق السياسي والخطابي، أجادل أنَّ الشاه وزين العابدين بن علي ومبارك لم يستطيعوا حشد نوع من القمع العاري الذي قد ينقذ أنظمتهم من المتظاهرين السلميين المطالبين بالديمقراطية الذين خرجوا إلى الشوارع بأعداد ضخمة. لم تكن هناك رغبة لدى هؤلاء الطغاة في هدم الديمقراطيات الزائفة التي كانوا يعتمدون عليها، ومن ثمّ ترددوا في اتخاذ القرار، مما سمح بنحمو الحركات الاحتجاجية بشكل كبير حتى أصبح من المستحيل وقف العنف. لقد أدرك هؤلاء الطغاة كيف سيتم نشر أخبار القمع الذي يمارسونه على وسائل الإعلام الغربية، وبالتالي، فهذا سيجبر قادة الغرب على التدخل. هذا “القفص الحديدي لليبرالية” لا يقيد الطغاة فحسب: عندما يطالب عشرات الآلاف من المتظاهرين العُزّل بالديمقراطية وحقوق الإنسان والحرية والكرامة عبر شاشات التلفاز، يجب على القادة الغربيين التعاطف مع مطالبهم والتخلي، على مضض، عن حلفاء مهمّين من أجل أن يكونوا على الجانب الصحيح في التاريخ (وعلى الجانب الصحيح في الانتخابات المقبلة).
كما أجادل أنَّ تكتيكات اللاعنف فعّالة على وجه التحديد بسبب توافقها مع القيّم الغربية. في الواقع، إنَّ الثورة غير المسلّحة هي في جوهرها تجسيد للمادتين 19 و20 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، اللتان ينصان على الحق في حرية التجمّع وحرية الرأي والتعبير. أي حكومة استبدادية (أو أي دولة ديمقراطية) تدعي حماية هذه القواعد ستعاني مع التناقضات التي تأتي مع حرمانهم مواطنيهم على النطاق الواسع الممثل في حركة ثورية سلمية.
وعلى عكس التحدي الثوري العنيف، التوافق بين اللاعنف والديمقراطية / حقوق الإنسان يجعل الحركات الثورية غير المسلّحة تهديدات وجودية لأي ديكتاتور متحالف بشكل وثيق مع الغرب ويعتمد عليه. ومع ذلك، ثمة تناقض بأنَّ الطغاة المتحررين من هذا القيد يمكنهم استخدام العنف ضد مواطنيهم؛ وهو درس تمّ إثباته بطريقة دموية عن طريق الأحداث في ليبيا وسوريا منذ عام 2011.
واشنطن بوست – إيوان24