في 11 كانون الثاني (يناير) وصلت قافلة الأمم المتحدة الإغاثية أخيراً إلى مدينة مضايا السورية المحاصرة، ولفتت صور المجاعة الاهتمام الدولي خلال الأسبوع الذي سبق وصول القافلة. ساهمت المساعدات في التخفيف من المعاناة الآنية، لكن الواقع يقول أن المساعدات قد لعبت دوراً أساسياً في تسهيل حصار مضايا وغيرها من عشرات الأماكن الأخرى في سوريا.
غالباً ما يُنظر للمعونات الغذائية الطارئة على أنها استجابة حسنة النية من المجتمع الدولي للكوارث الطبيعية و”حالات الطوارئ المعقدة”. ويتم تقديم المساعدات الإنسانية على أنها وسائل بريئة للمساعدة تهدف إلى تحسين أوضاع الأفراد المحتاجين. لكن هذا التركيز على الحياد، والقوانين والممارسات والأفعال التي تعمل على الحفاظ عليه، يؤدي إلى تسهيل استخدام التجويع كسلاح حرب، وقد قمنا بدراسة هذه المفارقة في مقالة نشرت مؤخراً في عدد شهر كانون الثاني (يناير) من تشاذام هاوس جورنال التابعة لمجلة إنترناشونال أفيرز.
تبين الإحصاءات أن المنظمات الإنسانية قد أطعمت قرابة سبعة ملايين سوري داخل سوريا خلال عام 2015، أي قرابة نصف التعداد السكاني المقدر بـ 16.6 مليون نسمة. وبين عامي 2013 و 2015 أجرينا أكثر من 100 مقابلة مفصلة مع عاملي الإغاثة والمتطوعين المحليين والمهتمين بالشأن السوري للبحث في تأثير المساعدات الغذائية المستعجلة في النزاع السوري، فوجدنا أن الغالبية العظمى من المساعدات الغذائية التي تم توزيعها في سوريا بين عامي 2012 و 2015 قد وُزعت في ما يعرف بـ “إطار الحيادية”. قد يبدو ذلك أمراً جيداً، لكن اتباع هذا الإطار يؤثر في تحديد من يحصل على المساعدات ومتى.
الحيادية والإنسانية وعدم الانحياز والاستقلالية، تلك هي المبادئ الأربعة الأساسية التي يقوم عليها العمل الإنساني في سوريا. وبالنسبة لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق العلاقات الإغاثية، تعني الحيادية “عدم وقوف العاملين إلى صف أحد أطراف النزاعات وعدم خوضهم في الخصومات السياسية أو العرقية أو الدينية أو العقائدية”. وفي حين يختلف استيعاب العاملين لمفهوم الحيادية (إذ تعمل كل من لجنة الصليب الأحمر الدولية والهلال الأحمر السوري بموجبات قانونية مختلفة) تميل معظم منظمات الإغاثة إلى اتخاذ مواقف متفقة مع تعريفات الأمم المتحدة، والمجموعات الإغاثية التي تتوخى هذا المبدأ في عملها تقدم نفسها على أنها غير مرتبطة بالسياسة ولا تملك سلطة وغير مثقلة بخروقات أخلاقية.
وقد ميّز عاملو الإغاثة الذين قابلناهم بين النية السياسية التي نالت نقداً واسعاً، وبين التأثير السياسي الذي اعترف به البعض على مضض. ورغم إدراكهم الضمني للبيئة المشحونة سياسياً حيث يعملون، بقيت نظرتهم وتحليلهم للوضع مبهماً بسبب الإطار المستخدم في الحديث عن تأثيرهم.
كما تشير ملاحظاتنا إلى أن الاستمرار بالعمل كما لو أن المعونات الغذائية غير مؤثرة على مجريات الأحداث السياسية أو العسكرية قد أدى إلى عواقب كارثية في سوريا. فأحد أبرز نواتج إطار الحيادية هو أنه يحجب تأثير المعونات الغذائية على العلاقات بين قوى السيادة. وقد اعتاد خراء السياسة النظر للسيادة على أنها ملكية جامدة تنالها (أو تخسرها) الدول، إما أن تعمل أطر العمل بموجب نظامها أو تواجه الفوضى. إلا أن بعض الأبحاث التي أجريت مؤخراً بينت أن ثمة أنظمة سياسية جديدة تظهر عادة عندما تخسر الدولة حصريتها الشرعية في استخدام العنف. وقد تورطت المجموعات الإغاثية في سوريا في هذه التغيرات السياسية رغم حرصها على عكس ذلك.
قد تحدهم القوانين الدولية والعوائق على الأرض وقوانين المنظمات ذاتها، إلا أن المجموعات الإغاثية شريكة في تقرير مصائر الناس من خلال صلاحيتها في تحديد المحتاجين للمساعدة وقدرتها (أو عدمها) على توصيل المساعدات إلى مناطق معينة، فبرنامج الأمم المتحدة للغذاء العالمي مثلاً يتبع عملية دقيقة جداً لتحديد مَن مِن الناس “تحت الخطر” (وفق ضوابط غير واضحة تماماً) تخضع عادة لاعتبارات خارجية.
يدرك نظام بشار الأسد تماماً أن معظم المنظمات الدولية لا تحبذ التخلي عن طموحاتها “الحيادية”، فأخذ يوجّه معظم المساعدات الغذائية الجمّة إلى المناطق التي يسيطر عليها، وأكثر ما ساعده على ذلك هو تأثير حكومته على وكالات الأمم المتحدة التي ترفض عموماً التعدي على سيادة النظام القانونية. وبحسب تقييم خارجي لجهود برنامج الغذاء الدولي في سوريا تبين أن إدارة المنظمة “قد ارتأت أن هدفها بإيصال الغذاء إلى أكبر عدد من المحتاجين يتحقق بالمحافظة على علاقات وطيدة مع الحكومة السورية والتفاوض خلف الكواليس للوصول إلى تلك الأماكن”.
كما أن علاقة النظام القوية بالهلال الأحمر السوري دعمت من تكتيكات الأسد تلك، فالهلال الأحمر هو أكبر منظمة في البلد تتعامل مع المنظمات الإنسانية الدولية. وقد أشار معظم عاملي الإغاثة الذين قابلناهم إلى أن علاقة الأسد بكبار الموظفين في الهلال الأحمر سمحت للنظام بفرض تأثير منقطع النظير عليها يقرر بموجبه أي المناطق تصلها المساعدات ومتى.
ما أهمية ذلك؟
إن النفوذ الذي تمارسه الحكومة على إيصال المساعدات الغذائية المستعجلة يساهم في تضخيم الفرق في الأمن الغذائي بين مناطق البلد، ومن خلال الحد من وصول الضروريات الأساسية إلى مناطق سيطرة الثوار، يتمكن الأسد من تمزيق النسيج المجتمعي في تلك المناطق الخارجة عن سيطرته، مما يضعف بدوره موقف المجالس المحلية والفصائل المسلحة التي تحاول تعزيز سيطرتها. ولعله ليس مفاجأً أن يهرب العديد من المدنيين إلى مناطق سيطرة الأسد رغم معارضتهم لسياسات النظام، لأن ذلك يكون عادة خيارهم الوحيد للحياة.
ومن ناحية أخرى ساعد احتكار المساعدات الغذائية والاستهداف المتعمد لمراكز إنتاج الغذاء في مناطق المعارضة نظام الأسد على تقديم نفسه كالطرف الوحيد القادر على حكم البلد. وقد استغل هذه الميزة في جر المدن الموالية للمعارضة إلى عقد هدن لصالحه، خاصة في المناطق المحيطة بالعاصمة دمشق.
للأسف لن يغير إيصال المساعدات إلى الجموع التي تتضور جوعاً في مناطق مثل مضايا كثيراً من الأوضاع التي تساعد على إنجاح حصارات الأسد، والأمم المتحدة لا تفتأ تقلل من أهوال الحصارات وتأثير المساعدات الغذائية على مسار النزاع. لكن إدخال نظام الأسد للمساعدات في حساباته السياسية كان أحد الأسباب وراء سقوط اللبوس غير السياسي للمساعدات الغذائية عنها خلال الأشهر الاثني عشر الماضية، وبناءً على ذلك غيرت الولايات المتحدة وقطر وغيرهما من الدول شيئاً من استراتيجياتها، فزادت تمويل الجهات التي توزع المواد الرئيسية في مناطق سيطرة المعارضة. وفي معظم الأحيان كانت الدوافع وراء تلك الجهود سياسية سواء أعلن عنها أم لا. هذا وقد بدأت معظم الأطراف الخارجية تدرك حقيقة مهمة أدركها الأسد منذ زمن بعيد ولما تدركها المنظمات الإغاثية بعد: أن الغذاء في النزاعات ليس على الحياد، ولا يمكن أن يكون كذلك يوماً.
ما من شك أن المنظمات الإغاثية خففت المعاناة وأنقذت الكثير من الأرواح في سوريا، لكن تأطير تدخلها في سياق الحياد يدفع موزعي الغذاء لمحاولة خلق مساحة لعملهم بعيدة عن عالم السياسة الفوضوي، غير آبهين بنفي السوريين على الأرض للمزاعم الملصقة بهم. ونتيجة لذلك لا يرى الإغاثيون كيف تساهم المساعدات الغذائية في إعادة تشكيل علاقات السيادة وصياغة السياسات.
في سوريا، غيرت الإنسانية المحايدة مجرى النزاع بشكل ملموس وأثرت في حياة الملايين. وللحروب طريقتها بتلطيخ أيدي الجميع، حتى أولئك الذين يحاولون جاهدين إبقاءها نظيفة.
واشنطن بوست: ترجمة ديمة الغزي- السوري الجديد