يبدو أن نجاح قوات المعارضة السورية المسلحة في فك الحصار عن أحياء حلب المحاصرة فيما سمي “بملحمة حلب الكبرى”, والسيطرة على تجمع الكليات جنوب غرب المدينة لمدة شهر كامل, لم يكن عملا مفيدا, بل يبدو أن نتائجه السلبية كانت أكثر وقعا على المعارضة منها على قوات النظام.
صحيح أن المعارضة المسلحة تمكنت وفي زمن قياسي للغاية من السيطرة على أكثر “قلاع” النظام تحصيناً في الجهة الجنوبية الغربية من مدينة حلب, إلّا أن هذا النجاح غير المستمر, أوعز لكل من النظام السوري وحليفه الروسي بفكرة الإسراع في صنع الحسم العسكري في حلب مهما كانت الظروف والنتائج, وبمعنى آخر شعر الحليفان الروسي والسوري, بخطورة التراخي في حلب, وأن قوات المعارضة مازالت تستطيع خلق ظروف المبادرة الهجومية لنفسها وخصوصا عند الأزمات, لذلك استلهم الطرفان فكرة الحسم العسكري في مدينة حلب على الطريقة الروسية الوحشية في الشيشان, فيما يعرف “بمحرقة غروزني”.
قد يتساءل القارئ.. ماذا حدث في الشيشان؟.. وماذا حدث في غروزني؟
بعد انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991م استقلت دول كثيرة كانت في حوزة الاتحاد السوفييتي من البلطيق إلى وسط آسيا مرورا بالبحر الأسود, لكن الحلم الشيشاني بالاستقلال لم يعمر طويلا أمام إصرار القيادات الروسية من كل التيارات على منعهم من ذلك, وبدأت طبول الحرب تقرع عام 1994م, رغم أن الشيشانين كانوا قد علموا مسبقا صعوبة هذه الحرب وقسوتها, ولا سيما أن أعداءهم, هم ورثة دولة القياصرة أنفسهم والذين كان لهم باع طويل بالإجرام في جمهوريات القوقاز عموما والتي تسكنها أغلبية مسلمة.
وقعت تلك الحرب الروسية-الشيشانية غير المتكافئة, وشهدت حرب روسيا الكارثية في الشيشان سفكا للدماء ووحشية مرعبة, بعد أن سحقت تشكيلات عسكرية روسية ضخمة من الدبابات والمدفعية والطائرات مدنا وبلدات شيشانية عديدة وحولتها إلى خرائب متفحمة, وكان معظم ضحاياها من المدنيين الشيشانين الأبرياء, وقد تم تقدير عدد الضحايا الشيشانين بنحو 90.000 معظمهم من المدنيين وفرَّ ما يقارب 600.000 مواطن شيشاني أي نصف السكان تقريبا.
فقد هاجمت القوات الروسية وخصوصا سلاح الجو إلى جانب قوات المشاة, دون تمييز مدن وقرى وبلدات شيشانية, قاتلة المدنيين ومغتصبة إياهم, ناهبة بيوتهم وحارقة ما تبقى منها ولم يتهدم بفعل الغارات الجوية الوحشية, وأعدم الروس المقاتلين الشيشان أسرى ومدنيين خصوم, واستعملوا المدنيين دروعا تحمي قواتهم وتجهيزاتهم, وشردوا الآلاف من الشيشانين ضمن حملة عسكرية “همجية” منظمة.
رغم الوحشية الروسية في حربها على الشيشان, تمكَّن المقاتلون الشيشانيون من تكبيد القوات الروسية المهاجمة خسائر فادحة بالعتاد والرجال, فما كان من القيادة الروسية بزعامة الرئيس “بوريس يلتسن” , إلّا خيار اللجوء لضرب مركز القوة والمقاومة في الشيشان وهي العاصمة “غروزني”, لذلك لجأت القوات الروسية إلى حصارها لأشهر عديدة, بعد أن طوقتها القوات الروسية من جميع أطرافها, رافق ذلك خطة عسكرية من القوات الروسية نقضي بسحق المدينة عن طريق قصفها باستخدام الطائرات الروسية إلى جانب القوات المدرعة والمدفعية الثقيلة من الأرض, مستغلة عجز المجتمع الدولي من التحرك لإنقاذ عشرات الآلاف من المدنيين الذين وقعوا ضحايا لهذه الهجمات, وأخيرا تمكنت القوات الروسية من إخضاع العاصمة الشيشانية “غروزني” والسيطرة عليها بعد أن قامت بمحرقة حقيقية عرفت فيما بعد “بمحرقة غروزني” التي بدأت آثارها تتكشف فيما بعد عن طريق العثور على عشرات المقابر الجماعية.
وفي سورية, يكاد المشهد يكون متطابقا إلى حد بعيد مع المشهد السابق في الشيشان, مع الفارق البسيط أن القوات المهاجمة في سورية هي المليشيات الطائفية المدعومة من إيران تحديدا على الأرض عوضا عن المشاة الروس في الشيشان, إلا أن واقع الحرب مستنسخ في كلا البلدين, فالطائرات الروسية تكرر في حلب ما فعلته تماما في غروزني من قصف وتدمير للمنشآت المدنية والطبية والبيوت الآمنة فوق رؤوس ساكنيها, والمدينة “حلب” تتعرض لحملة حصار خانقة, في صورة طبق الأصل عن صورة المحرقة الروسية السيئة السمعة في “غروزني”.
والأسوأ من كل ذلك هو التقاعس والصمت والعجز الدولي عن كبح جماح “العدوان” الروسي على حلب, فالروس يرتكبون يوميا العديد من المجازر بحق أبناء مدينة حلب وغيرهم من السوريين في بقية المدن والبلدات الأخرى المنتشرة في المناطق المحررة دون أي وسيلة ضغط رادعة لتصرفاتهم الوحشية.
كل التفاصيل تشير في حال استمرارها, أن القوات الروسية بمشاركة نظام “الأسد”, تسعى إلى استنساخ المحرقة الروسية “غروزني” في مدينة حلب, مما ينبأ بكارثة إنسانية كبيرة في القرن الواحد والعشرين تجري على مرأة ومسمع من كل الهيئات الحقوقية والإنسانية الدولية التي تقف موقف المتفرج مما يحصل من انتهاكات وجرائم حرب في سورية.
هذا ما دفع العديد من الناشطين والثوار السوريين إلى البدء بحملة دولية تسلط الضوء على جرائم روسيا في حلب, بعد أن أطلقوا عليها اسم “حلب غروزني الثانية”
ولكن يبقى الواقع المرير هو أن المجتمع الدولي الذي عجز عن حماية المدنيين من بطش “الهولوكست” الروسي في غروزني, يبدو أنه سيبقى عاجزا عن حماية المدنيين من بطش قوات الأسد ومليشيات إيران وطائرات روسيا, لأن حلب هي ضحية التفاهمات التي تطمح العديد من الدول اللاعبة إليها في سورية بالشكل الذي يلبي مصالحها فقط بعيدا عن أي اعتبار لنزيف الدم السوري المستمر في المدينة, وتبقى المحرقة مستمرة..
المركز الصحفي السوري-فادي أبو الجود.