بعض مراكز التفكير في الغرب بدأت تبحث عن آليات مناسبة، تفتح الباب للقضاء على التطرف، وتقود إلى نتيجة تتسق أو تقترب من المنظومة الظاهرة للقيم الغربية، تجعل من تغيير البيئة المحلية أولوية أساسية.
خلال السنوات الماضية جرى الحديث عن مشروعات غربية متعددة لإعادة هندسة البيئة العربية، بما يتواءم مع تطلعات ومصالح الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها، فشهدنا حديثا متواترا عن الشرق الأوسط الجديد، ثم كلاما عن الفوضى الخلاقة، ولم تتوان جهات غربية عدة عن الترويج لأنماط تتوافق مع أدبياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
كان الكلام عن الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني وتنظيم السكان وإعلاء شأن المرأة ومطاعم الوجبات السريعة والمواد الاستهلاكية وخصخصة الأمن وغيرها، من المداخل الرئيسية لمحاولة تنميط البيئة العربية، بصورة تتناسب مع القيم الغربية، التي استغرق الوصول لها في دول أوروبا وأميركا عقودا طويلة.
مع أن السعي لنشر المنظـومة شهد نجاحا وإخفاقا وصعودا وهبوطا، بدرجات تختلف من دولة إلى أخرى، لكن في المحصلة لم تحقق الأهداف الاستراتيجية من ورائه، نعم هناك دول عربية تكيّفت مع المفردات الجديـدة وحققت دول أخـرى فشلا ذريعا، غير أنـه في النهـاية كان التغيير سطحيا، ولم يخترق غالبية المجتمعات والفئات العربية.
في الوقت الذي عمل فيه البعض على نشر المنظومة الغربية، بكل ما تنطوي عليه من معان ومضامين وشعارات، نشط آخرون لصدها من خلال تكريس قيم البيئة المحلية (العربية والإسلامية) التي تتباعد في جوهرها عن نظيرتها الغربية، بل ظهرت في بعض الدول حوائط منيعة لسد التوجهات القادمة من الخارج، وأدت إلى تكريس قيم مناهضة بطرق شتى، وتحول الاحتماء بالتشدد والتطرف الإسلامي إلى وسيلة لمقاومة الاختراقات، ما أدى إلى إجهاض جزء معتبر من الرسالة الغربية، التي تستهدف تغيير الأنماط المحلية بما يحافظ على حزمة كبيرة من المصالح.
النتيجة التي بدأت تقرع أسماع الكثير من الدول الغربية، عقب الفشل الذي واجهته تصورات وممارسات سابقة، هي أن بقاء الحال (في المنطقة العربية) على ما هو عليه، يمكن أن يفضي إلى المزيد من المشكلات والأزمات التي تنعكس تداعياتها على جانب من جوهر القيم الذي تقوم عليها المجتمعات الغربية. بالتالي كان لا بد من التفكير في استدارة لعلاج الخلل الذي قاد إلى نتائج مروعة خلال الفترة الماضية، خاصة أن الثورات والانتفاضات التي اندلعت في بعض الدول العربية، لم تحقق أهدافها، وما لم يتم علاج الخلل سوف تتحول التأثيرات والروافد إلى عبء يثقل كاهل الدول التي تملك مجموعة مهمة من المصالح في المنطقة.
تدفقات اللاجئين على بعض الدول الأوروبية، وغزارة العناصر المتشددة التي نمت وترعرعت هناك أو عادت وتسربت إليها، واحدة من المشكلات المركزية التي أصبحت خطرا داهما، في وقت يصعب التعويل فيه على الحلول الأمنية وحدها لاقتلاع التطرف من جذوره، ولا بد من خطة محكمة تأخذ في اعتبارها العوامل التي أدت إليه، لا سيما أنه أصبح يحلق في بلدان متعددة، ويستغل رعاته مشكلات الفقر والجوع والمرض والبطالة والأزمات السياسية لإعادة تجنيد العناصر المحبطة. على أمل أن تصبح هذه العناصر قنابل متفجرة في دولها أو في الدول القريبة منها، حتى تحوّل رعايا الدول الغربية في أراضيهم أو أراضي الدول التي يذهبون إليها لأهداف سهلة للمتشددين، ووفقا لهذا الاعتقاد سوف تتزايد العمليات الإرهابية لأن الضربات الأمنية القاسية لن تقضي عليها بمفردها، وسينتقل ما يمكن تسميتهم بـ“المعتدلين” إلى مربع التطرف.
من هنا مرجح أن تتزايد الأزمة، التي لم يعد أمام من يفكـرون في حلها سوى التخلص من الأسباب الحقيقيـة، والتنسيق مع الدول التي تختمـر فيها تيـارات وجماعات متشـددة، ووضع رؤية تقطع دابر هـؤلاء ومـن يرعونهم، والأهم التخلص من العوامل التي تهيّئ المجـال لنمو عناصر متطرفة تتحول إلى قنابل بشرية على المدى القريب.
في هذا الفضـاء المفعم بالتنـاقضات، بذلت دول مثل مصر والأردن وتونس والسعـودية والمغـرب، جهودا كبيرة، بدأت مع ارتفاع الصوت بتجديد الخطاب الديني، ثم الحديث عن تغيير مناهج التعليم ومحاولة التخلص من كل من يساعد المتطرفين على مواصلة مسيرتهم، والجميع لم يحقق نتائج جيدة، وحتى نسبة التقدم تختلف من دولة إلى أخرى، لأن هناك ممانعات محلية كامنة لم تستطع بعض المحاولات تخطيها.
كما أن الحساسية السياسية التي تغلب على تصرفات حكومات عربية في علاقتها بأنصار ومؤيدي التيار الإسلامي، تحولت إلى حجر عثرة يضاف إلى العقبات الكثيرة التي تتناثر في دروب ودهاليز متنوعة، تغلغلت في قاع مجتمعات عديدة، والأخطر أن هناك من يرعاها على مستوى القمة، سواء لاعتبارات تتعلق بميول سياسية معينة أو تقديرات خاصة بالمصالح، وصلت إلى حد الرغبة في عدم سد كل المنافذ أمام التيار الإسلامي بأطيافه. في هذا السياق، بدأت بعض مراكز التفكير في الغرب تلجأ إلى البحث عن آليات مناسبة، تفتح الباب للقضاء على التطرف وذيوله وأنيابه، وتقود إلى نتيجة تتسق أو تقترب من المنظومة الظاهرة للقيم الغربية، تجعل من تغيير البيئة المحلية أولوية ومنصة انطلاق أساسية خلال المرحلة المقبلة.
بعيدا عن الخطط والترتيبات لتسوية الصراعات والتوترات التي تدور في المنطقة، فإن الاتجاه العام يميل إلى مساعدة الحكومات والقيادات المحلية، لتجفيف منابع الإرهاب بالطريقة التي تتلاءم مع خطورته وتتغلب على العراقيل، بمعنى لن يكون هناك مجال للتحايل أو المماطلة، ومن الصعوبة غض الطرف عن الأدوار السرية التي تلعبها بعض الدول في تغذية صراعات هنا وهناك، ولن يكون من المقبول توفير ملاذات لقيادات إسلامية مشبوهة، علاوة على إغلاق المنافذ التي تتسرب منها الأسلحة والأموال لدعم حركات إسلامية أصبحت في عداد القوائم الإرهابية.
عملية التجفيف الغربية بالتعاون مع قيادات عربية لن تكون سهلة، لأن من يشرفون عليها ويضعون العناوين الرئيسية لها، لديهم أهداف معلنة وأخرى خفية، كما أن الدوائر المتعاونة من الصعوبة أن تتلقى الأوامر فقط، وإذا فرضت عليها ضغوط واستسلمت على مضض للتعاون وفقا للتوجهات الغربية، يمكنها أن تضع مطبات تؤدي إلى أزمات هيكلية في تنفيذ المهام التي تقود إلى هندسة وتغيير البيئة المحلية، بما يعكس التصورات العامة بالمفهوم الإيجابي الغربي. ما لم يكن هناك وضوح وشفافية ورؤى وتفاهمات مشتركة بين الجانبين، سوف تفشل العملية القادمة لتدشين شرق أوسط جديد (منطقة عربية)، وفقا للمعايير الغربية التي ترمي إلى كبح جماح ما يمكن وصفه بـ“القوى المنفلتة” في المنطقة.
العرب محمد أبو الفضل