قد تمنيت الموت بعد سماع هذا النبأ الفظيع”، قال قائد سلاح الجو في حرس الثورة، أمير علي حجي – زادة، عندما أوضح ظروف تحطم الطائرة الأوكرانية التي قتل فيها 176 مسافراً. الجندي الإيراني مطلق الصاروخ الذي انفجر قرب الطائرة في اليوم الذي أطلقت فيه إيران الصواريخ على القواعد الأمريكية في العراق، اتخذ “قراراً خاطئاً”، أوضح الجنرال. وأضاف: “لم يكن الاتصال سليماً، لذلك لم يكن بإمكانه التأكد من هوية الطائرة”.
هذا التفسير ظهر تفسيراً منطقياً جداً. والولايات المتحدة نفسها أسقطت طائرة ركاب إيرانية في العام 1988، قتل فيها 290 من الركاب والطاقم. عندما أخطأت حاملة الصواريخ “فينسس” تشخيص الطائرة واعتقدت أن الأمر يتعلق بطائرة قتالية من نوع “اف 14”. ولكن هذا هو الجانب البسيط نسبياً من الحدث. كانت إيران تنوي إنهاء قضية اغتيال قاسم سليماني بإطلاق كثيف لصواريخ لم تتسبب كما يبدو بضحايا في الأرواح.. وبهذا إنهاء الجانب الحاسم والخطير من المواجهة مع الولايات المتحدة. الآن حلت قضية الطائرة محل تصفية سليماني. وجدت إيران نفسها في موقف دفاعي يجب عليها فيه تقديم التفسيرات، وتقديم المسؤولين عن ذلك للمحاكمة وتلقي الانتقاد ودفع التعويضات، وتحديداً فقدان الشرعية في نظر نفسها وفي نظر جزء من الجمهور الإيراني لضرورة الانتقام من الولايات المتحدة بعد أن تسببت بنفسها بتحطم طائرة مدنية.
ستواصل قضية الطائرة دويها لفترة معينة، ومطلوب من إيران في هذه الأثناء أن تعالج التداعيات المتوقعة من تصفية سليماني، تحديداً في الجبهة العراقية. تصريحات جهات عراقية كبيرة، منها قائد حرس الثورة حسين سلامي، التي تدل على أن إيران لا تتوجه نحو الحرب وفي الوقت نفسه لا تخشى المواجهة والرد، يمكن أن تكون نية لتهدئة التوتر. ولكن السؤال الأساسي هو: إلى أي درجة تسيطر القيادة العسكرية في إيران، بأشكالها، على جميع المليشيات والمجموعات العسكرية التي تعمل باسمها في العراق ودول أخرى؟
حسب تقارير عراقية، يتبين أن نصف المليشيات التي تشكل “الحشد الشعبي”، الأمن العام للمليشيات الشيعية التي تؤيد إيران وتعمل في العراق، أعلنت بعد موت سليماني بأنها غير مستعدة لتلقي أوامر من القيادة العسكرية العراقية، وأن كل مليشيا منها ستعمل “حسب مصالحها”. و”علاقتنا مع الحكومة تنحصر فقط في اليوم 26 من الشهر”، وهو اليوم الذي يتم فيه دفع الرواتب التي تأتي من خزينة الدولة.
وإذا سمح حرس الثورة للمليشيات التابعة له بالعمل بصورة مستقلة، حتى لو جزئياً، فيتوقع أن يتدهور العراق نحو حرب عصابات ويفقد السيطرة على الأمن الداخلي. هذا في الوقت الذي يحاول فيه أعضاء البرلمان والحكومة الانتقالية- حتى الآن بدون نجاح- تشكيل حكومة جديدة وتعيين رئيس جديد لها، من أجل وقف العصيان المدني الذي عاد في نهاية الأسبوع إلى الشوارع بعد هدوء لبضعة أيام في أعقاب الحداد على قاسم سليماني.
مقتل سليماني على الأراضي العراقية زاد من طلبات حركات الاحتجاج، ومنها إزاحة الوجود الإيراني في الدولة، من أجل منع تحول العراق إلى ساحة حرب بين إيران والولايات المتحدة. “إذا كانت الحكومة العراقية تطلب إبعاد جميع القوات الأجنبية من أراضيها فيجب عليها البدء بإخلاء القوات والوجود الإيراني من الدولة”، كتب أحد أعضاء البرلمان في صفحته في “فيسبوك”. قانون إخلاء القوات الأجنبية الذي سنّه البرلمان الأسبوع الماضي والذي هو موجه ضد الوجود الأمريكي، يلزم الحكومة بالعمل على تنفيذ توجيهات القانون خلال فترة قصيرة.
ولكن إذا اعتقد رئيس الحكومة، عادل عبد المهدي، بأنه يمكنه البدء بمفاوضات جدية وقصيرة مع الأمريكيين على سحب قواتهم، أوضح الرئيس ترامب بصورة حادة وصارخة بأنه لا ينوي إجراء أي مفاوضات حول الانسحاب. “كل طاقم أمريكي سيصل إلى بغداد سيبحث فقط في موضوع حجم القوات التي يمكنها أن تخدم بصورة أفضل شراكتنا الاستراتيجية… ولكننا لن نناقش الانسحاب”، أوضحت وزارة الخارجية الأمريكية في بيان نشر الجمعة. الرئيس الأمريكي نفسه قال في مؤتمر صحافي بأنه يطمح إلى أن يدير العراق شؤونه بصورة مستقلة. “في لحظة معينة، سنخرج من العراق. ولكن هذه اللحظة لم تحن بعد”، قال.
الموقف الأمريكي الذي يتجاهل قرار البرلمان العراقي يخدم موقف رئيس الحكومة الانتقالية الذي أعلن بالفعل عن تأييده للانسحاب، لكنه يعرف جيداً الخطر المحدق بالعراق إذا تم تنفيذ هذا القانون. هو يحتاج فعلياً إلى المواجهة مع خصومه السياسيين، رؤساء أحزاب الشيعية المؤيدة لإيران والتي تطمح إلى أن تسجل لنفسها ولإيران إنجازاً سياسياً بعد قتل سليماني، لكن من الواضح لها أيضاً بأن إخراج القوات دون اتفاق وخلافاً لرغبة الولايات المتحدة، يعدّ عملية غير ممكنة. القوات النظامية في العراق لن تهب للحرب ضد خمسة آلاف جندي أمريكي من أجل فرض انسحابهم. ولكن المليشيات الشيعية ستحاول في حينه خلق واقع من الفوضى، وتهاجم بشكل متقطع أهدافاً أمريكية وتشل نشاطات شركات النفط الأمريكية، وفي الوقت نفسه خلق مواجهات عنيفة ضد حركات الاحتجاج من أجل قمعها.
في سيناريو آخر، سيحاول رئيس الحكومة التوصل إلى تفاهمات مع الولايات المتحدة حول جدول زمني للانسحاب، بحيث لا يكون مكتظاً جداً ويمتد لفترة زمنية. وذلك من أجل قطع العلاقة بين تصفية سليماني والقانون العراقي من جهة والانسحاب من جهة أخرى. وبذلك سيكون بالإمكان “الحفاظ على كرامة الولايات المتحدة وعدم منح هدية لإيران”.
إضافة إلى المحادثات العلنية التي تجري بين العراق والولايات المتحدة في قضية سحب القوات، ليست واضحة تلك الاستراتيجية التي توجه سياسة الرئيس ترامب في منطقة الخليج. في الأسبوع الماضي، ألمح إلى الحاجة إلى تدخل واسع لدول الناتو دون إعطاء تفصيلات بأي صورة وما هدف توسيع النشاطات.
ولم يتم السماع عن أي حوار استراتيجي جرى بين الولايات المتحدة وشركائها في الناتو حول مستقبل التدخل في الخليج. وحسب ردود رؤساء دول الناتو، يبدو أن الأمر يتعلق بأحد القرارات الارتجالية التي يتخذها ترامب بين الفينة والأخرى. هل سيعالج تنازل ترامب عن التحالف العربي وعن فكرة تشكيل “ناتو عربي” التوتر في الخليج في مواجهة إيران؟ قد يتوصل إلى استنتاج بأن تحالفاً عسكرياً مع الدول العربية ضد إيران هو أمر جيد على الورق فقط.
نقلا عن القدس العربي