لم يعلن بعد الرئيس الأميركي الجديد، دونالد ترامب، بوضوح، أسس سياسته وطريقة عمله مع ملف الأزمة السورية، لكن رسائله في هذا الخصوص، إذا ما التزم بتنفيذها، تعني أنه سيطلق يد روسيا وإيران أكثر في تحديد مسار التفاهمات والتوازنات ورسم خريطة سورية الجديدة.
حذرنا ترامب، أولاً، من أن فتح الأبواب أمام اللاجئين السوريين سيزداد صعوبةً، إذا لم نتوقف مطولاً عند إعلانه رغبته “في إعادة الأقوياء منهم الذين قبلتهم الولايات المتحدة في أراضيها، فهناك احتمال أن يكونوا جيشا من إرهابيين، انتحلوا شخصيات لاجئين”. وتبنى قبل الجلوس على مقعد الرئاسة فكرة أن تحالفاً أميركياً مع روسيا والنظام في سورية فرصة لهزيمة تنظيم الدولة، وهي السياسة التي يفضلها للتعامل مع الأزمة السورية. ثم قال إنه لا يحب بشار الأسد مطلقا، لكن تعزيز نظامه هو الطريق الأفضل للقضاء على التطرّف الذي ازدهر في فوضى الحرب الأهلية. “الأسد بالنسبة لي يأتي في الأولوية بعد تنظيم داعش”.
يبدو أن واشنطن تريدنا أن نتغاضى، ونتعاون معها في الجمع بين مشروعية التدريب والتسليح والتنسيق الذي تنفذه مع الوحدات الكردية في سورية وقانونية وجود قوات حزب الله اللبناني على جبهات القتال هناك، على الرغم من تعارضها مع شعار النأي بالنفس اللبناني. وأخيراً، أن نتجاهل رغبة الحشد الشعبي العراقي الالتحاق بقوات النظام في سورية، من دون سماع رأي الحكومة المركزية في بغداد.
تريد واشنطن محاربة تنظيم داعش، ومنح الوحدات الكردية السورية التابعة لحزب صالح مسلم (الاتحاد الديمقراطي) دوراً أكبر في الملف السوري، ولا تريد تقديم السلاح النوعي لقوى المعارضة، مخافة أن يقع بيد جيش الفتح والمتشددين، وهي تحاول أن توازن مواقفها من خلال طمأنة الثوار أنها ستعرقل خطط تقديم العون العسكري للنظام. لو كانت واشنطن تريد أن تخدم حقاً لكانت فعلت أبسط ما في مقدورها، وهو إنهاء مشاركة حزب الله ووجوده العسكري في سورية، بالتنسيق مع السلطات الرسمية اللبنانية. هي لم تفعل ذلك، ليس بسبب عجزها، بل بسبب عدم رغبتها في قطع الطريق على هذا الوجود الذي يخدم أهدافها هناك. وها هي الآن تتابع عن قرب إعلان “الحشد الشعبي” رغبته في التوجه إلى سورية لدعم النظام، فهل هو مشروع أميركي آخر لتعقيد المشهد السوري، وتعطيل التقارب والتنسيق التركي الروسي هناك؟
لم تعرقل واشنطن الخطط التركية في التعامل مع ملف الأزمة السورية فقط، بل كانت، أيضاً، تحولها أوراق مساومة، تناور بها مع موسكو وإيران ضد شريكها التركي. هي التي وعدت بدعم مشروع تدريب وحدات في المعارضة السورية المعتدلة وتجهيزها، وفتح الطريق أمامها، وتخلت عن كثير من تعهداتها، وربما هذا ما دفع أنقرة إلى تغيير سياستها، وطريقة تعاملها مع الملف السوري، وتحركها باتجاه الدخول في المواجهة العسكرية المباشرة مع تنظيم داعش، وطرده من شمال سورية، في إطار خطة تنسيق واضحة المعالم مع موسكو لقطع الطريق على المناورات الأميركية ضدها هناك. ويعد قرار فرض العقوبات على مزودي النظام السوري بالسلاح رسالة أميركية لروسيا وإيران باتجاه تعقيد الملفات، وإطلاق يدهما أكثر لا غير .
ما الذي يعنيه كل هذا التجييش والحشد العسكري التركي على الحدود مع سورية والعراق، لو لم تكن أنقرة تريد توجيه رسائل مباشرة لإدارة أوباما، قبل غيرها، أن الرهان على مواقف الحليف المفترض لم تعد سياسةً مغرية لأنقرة، وأن لا أحد يحكّ جلدك مثل ظفرك.
إما أن نكون موحدين وأقوياء في حوارنا مع ترامب في الأسابيع المقبلة، ونضع أمامه جردة الربح والخسارة الأميركية، ونقنعه بها، أو أن نتخلى عن خيار النزول إلى البئر بالحبل الأميركي، والبحث عن بدائل إقليمية أخرى، كما فعلت تركيا أخيراً، ما قد يقود واشنطن إلى تغيير مواقفها وأساليبها .. أو أن نقطع مع الإدارة الأميركية، إذا ما تصلبت في دعم الوحدات الكردية في سورية، ولعب ورقة رئيس إقليم كردستان العراق، مسعود البرزاني، بتشجيعه على البقاء في بعشيقة، وفتح الطريق أمام وحدات العمال الكردستاني للانتشار في سنجار، بهدف الرهان على خطة فوضى خلاقة جديدة، لا تملك غيرها من خيارات.
الدخول العسكري التركي إلى شمال سورية هو الذي أبقى الأتراك، في اللحظة الأخيرة، أمام طاولة المساومات الإقليمية، لا بل هو اليوم الذي حول أنقرة إلى لاعب أساسي في توجيه مسار التطورات في شمال سورية نفسها. والزيارات واللقاءات التركية الروسية، السياسية والعسكرية والأمنية على أعلى المستويات، في الأسابيع الأخيرة، وعدم مشاركة الطيران الروسي في قصف حلب، كما تعلن موسكو، تطورات تؤكد وجود خطة تركية روسية تتقدّم على الأرض، وأن واشنطن التي فقدت فرصة المناورة على خط التوتر التركي الروسي بدأت تقدم أوراقاً مغرية للبلدين، بينها قرار الوحدات الكردية مغادرة منبج بذريعة محاربة تنظيم داعش في الرقة، وإعلان المبعوث الخاص لقوات التحالف ضد “داعش”، بريت ماكفورك، أن التنسيق التركي الأميركي مستمر في معركة الرقة. وكشف رئيس الأركان الأميركي، جوزف دانفورد، عن أجزاء مهمة من ورقة التفاهم بين أنقرة وواشنطن، في معركتي الموصل والرقة. ما لا نعرفه بعد هو ما إذا كانت الخطة التركية هي فتح الطريق أمام الجيش السوري الحر للاقتراب من الرقة، وأخذها من “داعش”، أم إن إيصاله إلى مدينة الباب هو أكثر ما يمكن أن تقدمه تركيا لنفسها، ولقوى المعارضة، في إطار خطة بناء “المدينة الآمنة”؟
ما هو نوع التفاهم التركي الروسي بين الرئيسين، رجب طيب أردوغان وفلاديمير بوتين، وبين القيادات العسكرية العليا في البلدين التي بدأت عملية تنسيق وتبادل معلومات عسكرية وأمنية واسعة؟ حصلت تركيا على كثير مما تريده في شمال سورية، لكننا لا نعرف ما إذا كانت نقطة النهاية هي مدينة الباب ومشروع المنطقة الآمنة، أم هي البداية لخطة سياسية عسكرية أوسع أعدت بين أنقرة وموسكو، ووجدت واشنطن نفسها ملزمةً بدعمها؟
بقي أن نرفع معنويات الرئيس الأميركي بعض الشيء، ونقول إن الموقف الأميركي في سورية لا بد أن يرتبط مباشرة بملفات ومواقف أميركية إقليمية عديدة، متداخلة مع الملف السوري، وهي أبعد جداً من مسألة خيار أولوية ترامب بين الحرب على تنظيم داعش أو على النظام في سورية. ونحن ما زلنا لا نعرف تماماً ما الذي سيقوله ترامب للإيرانيين، بعد دخوله هو وفريق عمله البيت الأبيض. وهل ستقبل موسكو أن يصعّد ترامب ضد طهران في موضوع الملف النووي، ضاربا بعرض الحائط بنود اتفاقية التفاهم المعلن بين الغرب وإيران؟
تريد موسكو تحديد حصتها في سورية، وتضع أسس حمايتها، وتركيزها هناك في بناء منطقة آمنة مشابهة للمنطقة التركية في محيط حلب واللاذقية. تريد أن تعيد بناء المدينة على طريقتها هي، كما فعلت في الشيشان وقرقزستان والقرم، وتضمن توازنات حديقتها الخلفية هناك، التي ستوصلها إلى شرق المتوسط. وهذا ما تحاول إقناع أنقرة به من خلال دعمها في تعطيل مشروع الكيان الكردي الأميركي في المنطقة نفسها، فهل يطرح ترامب مشروعاً خدماتياً بديلاً، أم أنه سيوقع لموسكو على ما تريد في إطار رسم خريطة تقسيم جديدة لسورية تقبل واشنطن وحلفاؤها الأكراد فيها بالتمدّد في شرق الفرات، ويحفظ كل طرف مصالحه في التفاهم الجديد؟
احتمال آخر لا نناقشه كثيراً في تركيا، وهو إما أن أنقرة لا ترى المصيدة المعدّة لها في حلب، عبر تفاهم أميركي روسي إيراني لإسقاطها في المستنقع هناك، عبر استدراجها إلى مدينة الباب، أو أن سيناريو التفاهم التركي الروسي على إخراج مجموعات “فتح الشام” من حلب هو الذي سيشكل مقدمةً لخطة حل جديدة في سورية، تبدأ وتنطلق من الشمال، وضعت تفاصيلها على خط أنقرة موسكو؟
مسؤولية الائتلاف الوطني السوري المعارض والجيش السوري الحر، بعد الآن، أن يزيدا من حجم التنسيق والاستعداد لجولاتٍ أصعب في المواجهة مع النظام وحلفائه، من دون أن نغفل احتمال إقدام الإدارة الأميركية الجديدة على لعب أوراق محلية وإقليمية كثيرة ضدهما. توحيد صفوف قوى المعارضة، سياسياً وعسكرياً، ورفع مستوى الجهوزية، واستغلال الفرص التي تملكها في تحالفاتها مع قوى عربية وإقليمية وغربية، ورفع صوتها أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، وتفعيل خطة المنطقة الآمنة في شمال سورية، والتصدّي لمشروع حزب الاتحاد الديمقراطي، الكردي التقسيمي، وبين ما يمكن فعله على المدى القصير، مصير حلب هو النقطة العالقة الوحيدة في المشروع.
العربي الجديد – سمير صالحة