أسباب كثيرة تدفع روسيا للشعور بالقلق إزاء الاحتجاجات البيلاروسية، بمستوى لا يقل بل وربما يزيد عن قلق القيادات البيلاروسية نفسها، ذلك أن تلك الاحتجاجات تمثل تحديا جديا لسياسة روسيا ونفوذها في الفضاء السوفياتي، وتؤكد فشل ما قال وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، إنه إنجاز حققته القوات الروسية في سوريا، بأن “تمكنت من وقف زحف “الثورات الملونة”. ورغم تباينات كثيرة في التفاصيل بين المشهدين السوري والبيلاروسي، إلا أن القواسم المشتركة بينهما كثيرة أيضاً. في الحالتين خرج الشعب ضد نظام الحكم مطالبا بالعدالة والحرية، وفي الحالتين تحاول روسيا تحقيق مصالحها عبر موقف محدد من الاحتجاجات الشعبية. وإذا كانت قد نجحت من تحقيق تلك الأهداف بسهولة في الحالة السورية، فإن خصوصية بيلاروسيا جغرافيا وسياسيا واجتماعيا، تجعل من تكرار الدور الروسي في سوريا مهمة محفوفة بمخاطر كبيرة، الأمر الذي لا يلغي إمكانية تحقيق مكاسب في بيلاروسيا كالتي حققتها روسيا نتيجة تنازلات النظام في سوريا.
بيلاروسيا وسوريا على ميزان الخسائر الروسية
صحيح أن روسيا الآن لديها مصالح كبرى في سوريا، تشكلت نتيجة تنازلات قدمها الأسد لموسكو مقابل دعمها السياسي والعسكري لنظام حكمه، إلا أن خسائرها لو لم تتبنَ ذلك الموقف كانت ستبقى محدودة جداً، لأن مصالحها في سوريا مع اندلاع الثورة هناك كانت شبه معدومة، وعلاقاتها السياسية والاقتصادية مع النظام كانت “علاقات صداقة وتعاون استراتيجي” في الشعارات فقط. ومع مستوى تعاون عسكري في أدنى مستوى، لم تكن سوريا تشكل أهمية كبرى بالنسبة لعقيدة الأمن الاستراتيجي الروسية.
أما بيلاروسيا فإن وضعها مختلف تماما بالنسبة لروسيا، والإطاحة بنظام حكم لوكاشينكو ينطوي على خسائر لا يمكن التعويض عنها، كما ستكون له تداعيات خطيرة على مستقبل النفوذ الروسي في الفضاء السوفياتي. ويرى خبراء أن الإطاحة بالرئيس لوكاشينكو، وصعود نظام حكم بديل عنه، يكون مقرباً من الغرب ويدعو إلى التكامل معه، يهدد وفق الرؤية الروسية بوصول الناتو إلى قاطع إضافي من الحدود الروسية، بعد اقترابه منها عبر دول البلطيق. وبالتالي قد تتحول بيلاروسيا من “رأس حربة” روسي متقدم في عمق دول الناتو، إلى “رأس حربة” بيد الناتو، متقدم في عمق الأراضي الروسية.
في الوقت ذاته يبدو أنه هناك مخاوف لدى الكرملين من احتمال انسحاب بيلاروسيا “بعد لوكاشينكو” من اتفاقية الدولة الاتحادية الروسية-البيلاروسية، وكذلك من أطر تكامل إقليمية، تقودها روسيا، وتشارك فيها جمهوريات سوفياتية سابقة، مثل الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، التي تمثل ذراع نفوذ روسيا الاقتصادي، ومعاهدة الأمن الجماعي، التي تشكل ذراع نفوذها العسكري. ولا يقتصر الأمر على القلق من احتمال انسحاب بيلاروسيا وحدها، بل ومن أن تشكل خطوتها هذه مثالا تحتذي به جمهوريات سوفياتية سابقة أخرى، مشاركة في تلك الأطر التكاملية، ما يعني انهيار مشروع روسيا الإقليمي للفضاء السوفياتي، وخروجه بالتالي عن سيطرتها نهائياً.
تعقيدات الخيارات الروسية في بيلاروسيا
لا تملك روسيا في الحالة البيلاروسية “رفاهية” اللجوء لخيارات متنوعة، كما فعلت في سوريا، حين قدمت بداية الدعم السياسي للأسد، ومن ثم تدخلت عسكريا للحفاظ على نظام حكمه، وتمكنت في الوقت ذاته من إقامة علاقات مع جميع قوى المعارضة فعليا. خيارات روسيا في بيلاروسيا محدودة جدا. لن تتمكن من التدخل عسكريا لدعم نظام الحكم هناك، لأنها إن فعلت ستتحول بالنسبة للمواطنين البيلاروس، من “شقيق سلافياني تاريخي”، وحليف مجاور، إلى “عدو” تدخل بقوة السلاح في الشأن البيلاروسي الداخلي. كما أن مثل هذا التدخل سيؤدي إلى تعقيدات غير مسبوقة في العلاقة بين موسكو والغرب، وسينعكس بصورة سلبية على علاقاتها مع دول الجوار. لهذا كانت روسيا حريصة منذ البداية على استبعاد التدخل العسكري في الأزمة البيلاروسية.
في الأثناء، يُلاحظ أن روسيا تبنت نهج دعم سياسي للرئيس لوكاشينكو، يسهم في الحفاظ على نظام حكمه، ولعلها تعول على تنازلات يقدمها بالمقابل لتحقيق مصالح لها في بيلاروسيا. إذ أنقذته من تدويل الأزمة، حين رفضت بحث الملف البيلاروسي في مجلس الأمن الدولي. وفي الوقت ذاته شدد الرئيس بوتين خلال اتصالات هاتفية مع قادة أوروبيين على عدم التدخل الخارجي بالأزمة البيلاروسية. أما وزير الخارجية سيرغي لافروف، فقد تبنى خطاب لوكاشينكو، حين أكد وجود تدخل خارجي مباشر وغير مباشر بالأزمة البيلاروسية. وفي خلفية هذا كله قدمت السلطات الروسية هدية إضافية للرئيس لوكاشينكو، حين رفضت الاعتراف بالمعارضة البيلاروسية، وذلك عندما رفضت الحوار معها، وقال بيسكوف المتحدث باسم الكرملين إن الموافقة الروسية على محادثات مع المعارضة البيلاروسية تُعد تدخلا خارجيا، وشدد على أن الحوار يجب أن يكون بين الأطراف البيلاروسية، أي الرئيس والمعارضة، دون تدخل خارجي.
عزلة لوكاشينكو مثل عزلة الأسد لإقامة قواعد روسية
هذا النهجح الروسي في التعامل مع الأزمة البيلاروسية، تبلور في الوقت الذي يواجه فيه الرئيس البيلاروسي ضغوطا متزايدة، وعزلة من جانب الغرب، لاسيما الاتحاد الأوروبي الذي أعلن رفضه نتائج الانتخابات الرئاسية البيلاروسية، وبالتالي عدم الاعتراف بألكسندر لوكاشينكو رئيسا لبيلاروسيا. ومع أن موقف لوكاشينكو يبقى حتى الآن أفضل من موقف رأس النظام في سوريا، حين وافق على منح الروس قواعد عسكرية في سوريا، إلا أن استمرار الاحتجاجات في بيلاروسيا، وتزايد الضغط على نظام حكمها، سيُغلق أبواب الغرب بوجه لوكاشينكو، بعد أن نجح إلى حد ما في فتحها خلال العاميين الماضيين، ولن تبقى أمامه سوى البوابة الروسية يطرقها طلبا للمساعدة والدعم. ضمن هذه الظروف قد تحاول روسيا العودة إلى الحديث عن افتتاح قاعدة لقواتها الجوية على الأراضي البيلاروسية، وفي الوقت ذاته ستدفع لوكاشينكو نحو تنازلات في موضوع اتفاقيات الدولة الاتحادية.
اللافت بالنسبة للقاعدة الجوية الروسية في بيلاروسيا، أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، اقترح إقامتها في نهاية سبتمبر / أيلول عام 2015، أي بالتزامن مع التحضيرات للإعلان عن إقامة قاعدة جوية روسية في مطار حميميم في سوريا. إلا أن الرئيس لوكاشينكو رفض حينها تلبية رغبة بوتين. وتجدد الحديث حول تلك القاعدة العام الماضي، ومجدداً عبرت القيادات البيلاروسية رفضها إقامة تلك القاعدة. حاليا لا توجد أي قواعد عسكرية لقوات قتالية روسية في بيلاروسيا، باستثناء قاعدتين فيهما رادارات من الحقبة السوفياتية، ضمن منظومة التحذير المبكر من هجمات صاروخية ومراقبة منطقة عمليات غواصات الناتو والولايات المتحدة. ووقعت روسيا وبيلاروسيا اتفاقية عام 1995 تنص على بقاء القاعدتين على الأراضي البيلاروسية، لمدة 25 عاماً، أي حتى عام 2021. وبينما لم تحمل الفترة الماضية أي وضوح بشأن مصير القاعدتين وهل ستُبقي عليهما بيلاروسيا أم لا، يرجح مراقبون أن يوافق لوكاشينكو، إن بقي في السلطة على تمديد الاتفاقية بخصوصهما، وقد يقدم تنازلات في موضوع إقامة قاعدة جورية روسية على الأراضي البيلاروسية، مقابل دعم مستمر من موسكو لنظام حكمه.
وقد لا تتوقف التنازلات عند موضوع القواعد العسكرية، إذ لا تزال قائمة الخلافات بين موسكو ومينسك بشأن “خرائط طريق” التكامل الاقتصادي العميق بين البلدين، في إطار اتفاقية الدول الاتحادية الروسية-البيلاروسية. وكان بوتين أجرى مع لوكاشينكو محادثات استمرت 7 ساعات نهاية العام الماضي، على أمل التوافق حول تلك “الخرائط”، لتوقيعها ضمن احتفال رسمي، خُطط له يوم 8 كانون الأول، بمناسبة مرور 20 عاما على توقيع اتفاقية “الدولة الاتحادية” بين روسيا وبيلاروسيا، إلا أن حفل التوقيع ألغي بعد فشل محادثات بوتين -لوكاشينكو. والآن مع تضييق الخناق على لوكاشينكو من “الغرب”، قد يصبح أكثر مرونة في هذا الشأن، ويحقق لبوتين حلمه في استكمال توقيع جميع الملفات التي تحدد آليات عمل الدولة الاتحادية. إلا أن هذه “النجاحات” لن تؤدي بالضرورة إلى إنهاء الأزمة البيلاروسية، وكما هي الحال في سوريا، ستبقى البلاد في حالة توتر، ولن يسهم تحقيق روسيا أهداف سياساتها في خروج لوكاشينكو من “العزلة”، كما لم تسهم من قبل في خروج الأسد من عزلته، وإعادة الاعتبار له ولنظام حكمه دولياً.
نقلا عن تلفزيون سوريا