ماكرون ورغم عدم خبرته السياسية وعدم وجود سند سياسي-حزبي واضح إلا أنه استطاع وبهدوء توظيف المخزون الفكري والثقافي للثورة الفرنسية في أبعاده الإنسانية العامة.
عاشت أوروبا شوطا من الترقب المرّ لما ستبوح به صناديق الاقتراع من نتائج تتعلق بالاستحقاق الانتخابي الرئاسي في فرنسا.
الجولة الثانية من هذه الانتخابات شحذت همم كلّ من المرشحين؛ مارين لوبان زعيمة اليمين الراديكالي المتطرف ومانويل ماكرون “السياسي الصغير” ممثلا للتيار الوسطي.
لوبان حاولت تطويع شعار “فرنسا أولا” في محاولة لإعادة الظاهرة الانتخابية الأميركية دونالد ترامب والتي كذبت كل استطلاعات الرأي.
الهجمات الإرهابية التي تتالت على فرنسا وآخرها اعتداء متحف اللوفر، ركبت موجتها لوبان واستطاعت إلى حد ما بث مشاعر الخوف والرهبة بالتخويف من فتح حدود فرنسا أمام الجالية المسلمة بل إن المسلمين-الفرنسيين أصبحوا في مرمى سهامها.
أما ماكرون ورغم عدم خبرته السياسية وعدم وجود سند سياسي-حزبي واضح إلا أنه استطاع وبهدوء توظيف المخزون الفكري والثقافي للثورة الفرنسية في أبعاده الإنسانية العامة والمتأسسة على قيم الحرية والعدالة الاجتماعية وضمان حقوق الإنسان.
في خضم هذا الصراع المعلن والخفي تماهت النتائج المعلنة مع استطلاعات الرأي، فقد فاز ماكرون بنسبة 66.1 بالمئة في مقابل 33.9 بالمئة للوبان من مجموع الأصوات.
يمكن قراءة هذه النتائج من زوايا مختلفة؛ فبالنسبة لأوروبا فقد أنقذها ماكرون وأنقذ بذلك ما يعتقد الأوروبيون -وخاصة الفرنسيين والألمان- بأنهم قادة العالم الحر والمدافعون عن القيم الإنسانية والعولمة والاتحاد الأوروبي كهيكل اجتماعي واقتصادي جامع.
الملفت للانتباه أن الاستقطاب الثنائي بين معسكري اليمين الراديكالي المتصلب وبين اليسار، تبخر وتلاشى بتأسيس ماكرون لحركة “إلى الأمام” معلنا بذلك انفصالا رسميا عن العائلة الاشتراكية الموسعة في ما اعتبر خيانة، ولكن الفرنسيين باركوها ومن ورائهم كل المدافعين عن أوروبا المبادئ، أوروبا القيم، وفرحوا بفوز ماكرون.
ألهذا الحد يتغير المزاج السياسي؟ ألا يعتبر ماكرون ورغم وسطيته ظاهرة سياسية متميزة، في ظروف إقليمية وعالمية متفردة أيضا ولكن بحجم أزماتها وانتظاراتها؟
ماكرون في نظر أهل الدار وكل من لهم مصلحة في بقاء الاتحاد الأوروبي قائما بمؤسساته بمن فيهم المسلمون أو لعلهم الأقرب لمباركة فوزه، يمثل الامتداد الطبيعي للشراكة الأوروبية في كل أبعادها السياسية والاقتصادية. اعتبر هؤلاء أن انتخاب ماكرون رئيسا لفرنسا ردّ اعتباري للصفعة التي تلقاها الاتحاد باستفتاء البريكست. أوروبا لا تزال متماسكة.
أوروبا لا تزال زعيمة للعالم الحر. أوروبا ستواصل القيادة لمشروع العولمة الذي طالته انتقادات كبيرة.
أمام ماكرون معادلة بين المحافظة على قيم المساواة والحرية والديمقراطية وبذلك المحافظة على أوروبا موحدة وبين محاربة الإرهاب والتطرف سواء الإرهاب الوافد مع اللاجئين الفارين من بؤر التوتر ومناطق الحروب المعلنة أو ذلك التطرف المتأصل في المقيمين في أوروبا من المسلمين أو تطرف الأحزاب اليمينية الراديكالية التي جعلت خطابها شعبويا، المعادلة صعبة وشديدة الخصوصية بل قد تصل إلى حد المفارقة، مما دفعه إلى التصريح أثناء حملته بأن القاطرة ستكون الإصلاحات الاقتصادية وما سينجر عن ذلك من تأكيد المصلحة النفعية من وراء بقاء الاتحاد الأوروبي متماسكا.
معضلتان لا بد من حلهما؛ تتمثل الأولى في ضرورة إيجاد كتلة برلمانية تسند ماكرون وتوفر له الزخم التشريعي اللازم لمجابهة كل التحديات التي تفرضها المرحلة، ولا يوجد أمامه حل سوى الحصول على 289 مقعدا في البرلمان لتشكيل الأغلبية، حيث طالب ماكرون الفرنسيين في خطاب النصر بالاحتشاد خلفه في المرحلة القادمة والتي تعتبر أصعب من مرحلة الانتخابات. أما الثانية فهي اقتصادية بالتأكيد حيث يعاني ثاني اقتصاد في منطقة اليورو من ركود سبب بطالة بلغت نسبتها 10 بالمئة.
وتقوم فلسفة ماكرون على ضرورة المحافظة على التزامات فرنسا الأوروبية والتي يسعى من ورائها إلى تخفيض العجز وزيادة النمو.
كما لاحظ أن الإنفاق الفرنسي يجب أن يتناسب مع متوسط الدخل في الدول الأوروبية وذلك بالمراجعة وإعادة التبويب.
أما الجانب الثالث في هذه الفلسفة فيتأسس على تجديد النموذج الاقتصادي باعتمادات مالية ضخمة تستهدف بالأساس شريحة الشباب.
وإن نجح ماكرون في مسعاه فإنه بالتأكيد سيستعيد موقع فرنسا الريادي في أوروبا والعالم وسيضمن حدا أدنى من حماية الشباب بجعله ينخرط فعليا في الدورة الاقتصادية.
التطرف واجهتان، على ماكرون الحد من تأثيرهما، ولعل أخطرهما ما يمثله صعود أسهم اليمين المتطرف الذي قد ينتهز الفرص للتغلغل في المجتمع الفرنسي عبر الاستحقاقات الانتخابية المقبلة، بعد أن كشفت الإحصائيات أن حوالي 10 ملايين ناخب أعطوا أصواتهم للوبان وهذا وإن بدا انهزاما فإنه قد يتنامى ليصبح خطرا فعليا على فرنسا وعلى أوروبا وعلى العالم بأسره.
أما التطرف الوافد عبر الحدود فيمكن التحكم في مساراته عبر آليتين أولاهما إيجاد السبل الكفيلة بدمج الشباب المسلم في المجتمعات الأوروبية وخاصة بالحد من البطالة وتوفير سبل العيش الكريم. وثانيها مراقبة الوافدين عبر الحدود والعائدين من بؤر التوتر بأكثر حزم.
الموقف العربي من فوز ماكرون جاء مهللا في معظمه خوفا مما قد يلحق الجاليات العربية في فرنسا وفي الدول الأوروبية عموما في صورة فوز لوبان.
المسلمون في أوروبا أضحوا جزءا لا ينفصل عنها وماكرون يريد صياغة هذه العلاقة وفق البنى الديمقراطية المتأصلة من ناحية ووفق تكريس الأمن للفرنسيين بمن فيهم المسلمون والعرب المقيمون على الأراضي الفرنسية.
أوروبا هللت للحفاظ على وحدتها وتماسك اتحادها والعرب يمنّون النفس بتغير في مواقف فرنسا من قضيتين في غاية الأهمية، الخطر الإيراني المتصاعد في اليمن وسوريا إضافة إلى لبنان ثم الموقف من الأزمة السورية.
أوروبا تتوحد بماكرون والعرب يتفتتون بشظايا أزماتهم وحروبهم فمتى يحكّمون عقولهم ويعرفون بأن السياسات الأوروبية والغربية عموما حتى وإن بدت في صالحهم فإنها لا تخرج عن نواميس معادلة القدرة والعجز والقوة والضعف. فهل يكون ماكرون صديقا للعرب؟
عبدالستار الخديمي