ليس كل ما تقوله إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما، بخصوص الأوضاع السورية، محض ثرثرة. أحياناً، وعلى الرغم من نمطية القوالب التي تصوغ بها واشنطن رسائلها، فإنها تكون مشحونةً برصيد قوةٍ يكفي لإحداث الفعالية عند الأطراف المقصودة، والمرجّح أن هذا يحصل لحظة الإخلال بالتفاهمات على خطوط الصراع، ولعل من مؤشرات حصول ذلك الصدى الذي يصدر عن عواصم المراكز المنخرطة بالصراع في سورية والمعنية بالرسالة الأميركية.
لعل واحدةً من خبرات الحرب السورية أنها كشفت وجود نوعين من الكلام والرسائل، استخدمتهما أميركا في إدارة الأزمة. الأول عام وعادي، يُقال في المحافل الدبلوماسية والمنابر والمؤتمرات الدولية، وفي اللقاءات البروتوكولية. وفي الغالب، لا ينطوي هذا الكلام على التزاماتٍ، ولا يتضمن رسائل محدّدة، كما أنه غير قابلٍ للصرف السياسي، وتصعب ترجمته إلى إجراءات. وقد استخدمت إدارة أوباما هذا النوع من الكلام بكثافة طوال الأزمة، بعد نجاحه في تأمين هامش مناورة واسع استطاع البيت الأبيض من خلاله التهرّب من أي التزاماتٍ مستدامةٍ، واللعب على أكثر من حبل في الوقت نفسه.
يختلف النوع الثاني تماماً، وهو ما يمكن وصفه بالكلام من ذهب، وهو نادر جداً لكنه ينطوي على رهبةٍ، ويعيد الذاكرة إلى هدير أساطيل أميركا، ويجعل العالم أكثر هدوءاً. والظن أن زعماء الدول المقصودين بهذا الكلام يتحسّسون لحظتها حدود بلدانهم الجغرافية ومياههم الإقليمية، ويحصون أصولهم العسكرية والاستراتيجية، ويسألون مستشاريهم عن طبيعة التفاهمات وحدودها، وما إذا كانوا قد تجاوزوا الحدود في فهمها وتفسيرها وتطبيق مندرجاتها، لأنهم يدركون أن هذا الصوت مدعومٌ بكل ثقل أميركا العسكري، وتسنده كل الخيارات والبدائل.
كان كلام وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، أخيراً عن محدودية صبر أميركا، من النوع الثاني، وقد يكون بدايةً لمسارٍ جديد في التعاطي مع الأزمة السورية والأدوار الروسية والإيرانية فيها، في وقت قد يستغرب بعضهم إمكانية التعويل على دور جدّيٍّ للإدارة الأميركية، خصوصاً أنها دخلت المرحلة التي يجري وصفها فيها بـ”البطة العرجاء”، نتيجة قلة فاعليتها وانصرافها كلياً إلى الانتخابات الرئاسية التي تحتل سلّم أولوياتها، وإذا كانت إدارة أوباما في عز قوتها وتأثيرها قد اختارت طريق السلامة وعدم الانخراط في تفاصيل الأزمة، فكيف لها الآن أن تكون جديةً، وتجري تحولات جذرية في سلوكها.
تفسير هذا الأمر مرتبطٌ بدرجة كبيرة بطبيعة المؤسسات الأميركية وديمومة عملها، بغض النظر عن طبيعة الإدارة الحاكمة، ومرتبطٌ أيضا بالاستراتيجية التي يجري تنفيذها، وبحسابات تأمين استمراريتها ونجاحها، وكذلك بضمان استقرار المعادلات القائمة، وعدم العبث بها إلى درجةٍ قد تحدث أضراراً بعيدة المدى في المصالح الأميركية. لذا، الصوت الصادر عن كيري وعن إمكانية نفاد صبر أميركا، بعد خطوة أو خطواتٍ معينة، كان صوت هذه المؤسسات والكلام كلامها، وخصوصاً أنها المسؤولة عن الأمن الأميركي حالياً، وفي عهد أي رئيس آخر قادم.
بالطبع، من السذاجة بمكان تفسير كلام كيري عن محاسبة الأسد على جرائم الحرب التي يرتكبها هو المقصود تماماً من التصريح الأميركي، فلا إدارة أوباما لديها المصداقية الكافية في هذا الأمر، حتى تصدّقها روسيا وإيران، ويحسبان حسابها، بعد أن صمتت طويلا عن الجرائم المرتكبة، وتراجعت عن خطوط حمراء، كانت قد وضعتها، ولا نكبة الشعب السوري تعني شيئاً ذا أهمية في الحسابات الاستراتيجية الأميركية، ولا في تفكير أيٍّ من قادتها العسكريين والأمنيين.
لكن، واضح أن ثمة تفاهمات صلبة جرت بخصوص حلب بدرجة كبيرة، وبخصوص تغيير المعادلات على الأرض، إذ قبل تصريح كيري بأيام، كان المتحدث باسم البيت الأبيض قد طلب من روسيا لجم الأسد، في تعليقه على الخطاب الذي ألقاه الأخير أمام مجلس الشعب، وقال فيه إنه سيعيد سيطرته على سورية شبراً شبراً. وكانت الأيام السابقة قد شهدت رسائل “جس نبض” روسية، بدا واضحاً أنها موجهة لواشنطن عن عدم سماحها بتغيير المعادلة في حلب، وانتظار سقوطها بيد الفصائل المسلحة، وأعقب ذلك الاجتماع الثلاثي لوزراء الدفاع لروسيا وإيران ونظام الأسد، والذين أرسلوا من خلاله إشاراتٍ عن وجود استعداداتٍ لاقتحام حلب.
على ذلك، تضع واشنطن، ومؤسساتها العسكرية والأمنية، الحراك الروسي تحت المراقبة، وثمّة خطوط لا يُسمح له بتجاوزها، وقد جرت ترجمة هذا الأمر مرّاتٍ، من خلال إعلان موسكو الهدنة في حلب، على الرغم من انزعاج إيران ونظام الأسد، كما أنه يشكل جزءاً من الاستراتيجية الأميركية التي تعمل على تقييد الدور الروسي في العالم، حيث لفتت تقارير أمنية أميركية إلى أن تقييد روسيا وضبط تحركاتها ليس ممكناً من خلال بوابة أوروبا الشرقية، وتركها تتمدّد في الشرق الأوسط، ويتزامن ذلك مع جديةٍ أميركية في تفكيك هيكلية دولة داعش في سورية والعراق، ورفضها التنسيق مع الروس في هذا الأمر.
هل نفد صبر أميركا؟ يجيب وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، أن بلاده ليست ملتزمةً تجاه أحد بتعهداتٍ تفصيليةٍ حول أشخاصٍ، بقدر ما هي ملتزمة إنجاح عملية سلام سورية، لكن روسيا التي تتلطى في الشرق خلف علاقاتها بإسرائيل وإيران تدرك أن واشنطن هي من سمح لها بهذه المساحة من الحركة في سورية، وأن أي دعسةٍ زائدةٍ في هذا المجال قد تحوّل سورية إلى أفغانستان أخرى، وتنتهي معها مرحلة التدخل المنخفض التكاليف، ومعه كل الفرص في لعب أدوارٍ ربما تأنف واشنطن من لعبها.
العربي الجديد – غازي دحمان