أسفر انفجار عبوة ناسفة بدائية الصنع على جانب طريق في شرقي سوريا في 18 آب الجاري عن مقتل جنرال روسي وإصابة جنديين. كما قتل في الانفجار عدد من عناصر ميليشيا الدفاع الوطني الموالية لنظام أسد، الذين كانوا يجرون مع الروس مسحا للمنطقة في الميادين شرقي مدينة دير الزور، و وفقًا لإحدى الروايات فقد كلفت المجموعة الروسية بمساعدة ميليشيا الدفاع الوطني المحلية.
حروب الطرق
وبحسب معهد الشرق الأوسط في واشنطن، فقد قلصت موسكو أنشطتها شرق سوريا، على عكس الميليشيات الموالية لإيران والوحدات العسكرية التابعة لميليشيا أسد التي هاجمت الجنود الأمريكيين بالقرب من حقل نفط كونوكو في نفس اليوم الذي انفجرت فيه القنبلة – كما فتحت النار مؤخراً على دورية أمريكية – وهذا يتناقض مع المحاولات السابقة التي قامت بها القوات الروسية لترسيخ موقعها في منطقة الفرات والتنافس مع الدوريات الأمريكية في “حروب الطرق” غير المعلنة، و لا تزال موسكو تقوم بدوريات ولكن تواتر الاصطدامات انخفض بشكل ملحوظ.
واجهت الدوريات العسكرية الروسية القوات الأمريكية في مناسبتين في أوائل حزيران، كما أسفر الاشتباك الأخير في 25 آب عن إصابة جنود أمريكيون بجروح. من المؤكد أن القوات الروسية ستستمر في الضغط على الأمريكيين من حين لآخر، وقد تحاول تعزيز مواقعها على الأرض من خلال توفير غطاء جوي للأرتال العسكرية على سبيل المثال، و قد تشكل مثل هذه الإجراءات اختباراً لاتفاق تفادي الاشتباك بين روسيا والولايات المتحدة.
ونظراً للتطورات الأخيرة على الضفة اليسرى لنهر الفرات بات اتخاذ موقف أكثر حذراً لا معنى له، و شملت التطورات الأخيرة إضفاء الطابع الرسمي على العلاقات بين ميليشيا قسد والولايات المتحدة من خلال توقيع صفقة نفط، وظهور تحالفات سياسية جديدة مثل “جبهة السلام والحرية”، والمفاوضات بين “حزب سوريا المستقبل” وممثلين عن إدلب وحماة وحمص، بالإضافة إلى ذلك كانت هناك أيضا موجة من محاولات الاغتيال ضد زعماء العشائر، ما زاد الضغط بين العرب والأكراد داخل ميليشيا قسد وخارجها.
مسألة النفط
يُنظر إلى رد الفعل الروسي البطيء على صفقة النفط بين شركة “دلتا كريسنت إنيرجي” الأمريكية وميليشيا قسد عمومًا على أنه دليل على مشاركة موسكو في مفاوضات بشأن مستقبل شرق سوريا، وكذلك في مسألة حماية نظام أسد في على مواجهة الضغط المتكرر الناجم عن العقوبات. كما أثار إعلان متحدث باسم قسد بأن روسيا يمكن أن تستفيد اقتصاديًا من التعامل مع الإدارة الذاتية التابعة لقسد في شمال وشرق سوريا الحديث عن أن وصول المستثمرين الروس قد يساعد في تخفيف التوترات في شرق سوريا.
يبدو إعلان قسد ظاهريا وكأنه حيلة دبلوماسية، بمعنى آخر، يبدو أن ميليشيا قسد تستخدم التهديد بالنفوذ الروسي للضغط على الإدارة الأمريكية للحصول على ضمانات إضافية فيما يتعلق بوضعها المستقل.
ومع ذلك، كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان هو أول من أثار احتمالية التدخل الروسي في شرق سوريا حين عرض الرئيس التركي على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فرصة تحديث حقول النفط في دير الزور كوسيلة لتعزيز الاقتصاد السوري. قد يبدو عرض أردوغان مزحة للبعض، بالنظر إلى أن لتركيا دورا في شحن النفط من المنطقة الخاضعة لميليشيا قسد عبر كردستان العراق، ومع ذلك يجب قراءة عرض أردوغان في سياق رغبته في استخدام صيغة أستانا – التي تجمع بين روسيا وتركيا وإيران – للحد من استقلال منطقة الإدارة الذاتية شبه المستقلة.
وفي كانون الأول 2019، أعطى برلمان نظام أسد الضوء الأخضر لأنشطة شركتي نفط روسيتين في شرق سوريا. كان من المفترض أن تكون إحداهن، “ميركوري”، قد بدأت أعمال الاستكشاف في منطقة عبر الفرات بالفعل. اتضح لاحقًا أن ميركوري مملوكة لـيفغيني بريجوزين، رجل أعمال الروسي وصاحب مطعم اشتهر بعلاقاته الوثيقة مع بوتين وارتباطه بشركة “واغنر” العسكرية الخاصة. كان من المقرر أن تتم أنشطة ميركوري في الأراضي الخاضعة لسيطرة نظام أسد.
ومع ذلك، تشير الشائعات إلى أن هذه الخطة قد وصلت إلى طريق مغلق بسبب معارضة رجال الأعمال السوريين المتورطين في تهريب النفط، وقد يكون هذا بدوره هو الدافع الحقيقي لموجة العلاقات العامة السلبية التي انتقدت نظام أسد في وسائل الإعلام الروسية في شهر أيار الماضي.
كم أن شركة روسية أخرى مملوكة من قبل جينادي تيمشينكو، رجل الأعمال المرتبط بالكرملين والمدرج أيضًا في قائمة العقوبات الأمريكية قد تزيد من نشاطها في سوريا. إضافة لاستثماراتها في تعدين الفوسفات وتشغيل ميناء طرطوس البحري، أعلنت شركة ستوريترانزغاز إحدى شركات تيمشينكو عام 2017 عن الانتهاء من مصنعها الجنوبي لمعالجة الغاز (GPZ-1)، على بعد 50 كم من حمص. كما أعلنت الشركة عن خطط لاستكمال معمل معالجة الغاز الشمالي (GPZ-2)، الواقع على بعد 75 كم جنوب شرق الرقة، كجزء من صفقة موقعة في أوائل عام 2007. بالرغم من أن أعمال تصدير تيمشينكو للفوسفات مستمرة فقد كان التقدم في المشاريع المتعلقة بالغاز أبطأ إذ لم يتم تشغيل مصنع GPZ-2 رسميًا بعد على الرغم من أن الشركة وعدت في وقت مبكر من ديسمبر 2017 بأنها ستكمله في غضون 18 شهرًا.
ومن المحتمل أن تتخذ موسكو خطوات أكثر نشاطًا تجاه المشاركة في شرق سوريا، بل قد تطرح مخططات لحماية نفسها من آثار قانون قيصر، وسيشمل ذلك الامتناع عن أي مبيعات لموارد الطاقة مباشرة إلى نظام أسد عبر ممثلين مثل الأخوين قاطرجي، حتى لو انخفضت أحجام تهريب النفط بالفعل منذ دخول قانون قيصر حيز التنفيذ. قد يعني ذلك أيضًا أن روسيا ستوجه الموارد نحو ما يسمى بـ “المناطق الرمادية” التي لم تخضع بعد لسيطرة نظام أسد بالكامل، وبذلك تساعد في إعادة إعمار سوريا. ومع ذلك، إذا حكمنا من التجربة السابقة، فحتى عندما يكون لدى موسكو حرية اتخاذ نهج أكثر تعقيدًا، فإنها في النهاية تختار دائمًا المسار الذي يقبله نظام أسد.
نهج الانتظار والترقب
يختلف تحفظ روسيا الحالي عن نهجها السابق في بداية الحجر الصحي الصارم في سوريا الذي امتد من نيسان إلى حزيران، عندما شاركت موسكو في دوريات مشتركة مع أنقرة، وتفاوضت مع ميليشيا قسد، بل وفكرت في بناء قاعدة عسكرية في شمال شرق سوريا. حيث تدلل على ذلك التعليقات الشكلية الأخيرة من وزارة الدفاع الروسية بشأن الاشتباكات بين نظام أسد والقوات الأمريكية. يكمن السبب الأكثر ترجيحاً لهذا الجمود في إحجام موسكو عن الارتباط بالجهات الفاعلة التي تسعى إلى تفتيت شبه الحكم الذاتي لمنطقة عبر الفرات. بدلاً من ذلك، تفضل روسيا الوقوف جانباً ومشاهدة تطور الأحداث، بينما تفكر في اللحظة المناسبة للدخول كوسيط وجني الثمار السياسية.
وقدم قرار الولايات المتحدة في تشرين أول الماضي بالانسحاب الجزئي من شمال سوريا دروسًا متناقضة لروسيا التي سارعت إلى استخدام الانسحاب الأمريكي لتسليم عتاد لميليشيا أسد. علاوة على ذلك، تمكنت روسيا وتركيا من توسيع تعاونهما على الضفة الشرقية لنهر الفرات، وفق صيغة أستانا وبموجب اتفاقية أضنة. في المقابل، أثار تقليص الوجود الأمريكي توترات جديدة بين أنقرة وموسكو وطهران ونظام أسد، مما اضطر روسيا لإرسال قوات إضافية إلى سوريا إلى جانب ثلاث كتائب من الشرطة العسكرية.
من خلال منع إصدار قرار الأمم المتحدة في تموز بشأن شحن المساعدات الإنسانية عبر طرق شرق سوريا، أوضحت روسيا أن هدفها الحقيقي في نهر الفرات هو مساعدة نظام أسد على إحكام قبضته على المنطقة. حاولت الشركات العسكرية الخاصة الروسية أيضًا استخدام الاتفاقات غير الرسمية بين دمشق والقبائل المحلية لاحتلال حقول النفط. بيد أنّ السكان المحليين قرروا عدم دعم الروس في نهاية المطاف، كما لم تستطع موسكو تقديم الدعم رسميًا للمرتزقة وحمايتهم من الضربات الجوية الأمريكية.
الأكراد والقبائل
وأشار “أيدار أغانين”، نائب مدير إدارة تخطيط السياسة الخارجية بوزارة الخارجية الروسية، في مقال صدر مؤخراً، إلى أن موسكو بحاجة إلى محاولة “جذب القبائل تكتيكياً إلى الحوار السياسي”. وأضاف أغانين أنه يجب أيضاً دعوة القبائل للمساعدة في استعادة فاعلية مؤسسات نظام أسد، والتي قد تعزز من تطوير مناطقها. من المفترض أن الدبلوماسيين والمسؤولين العسكريين الروس من مركز المصالحة الروسي قد شاركوا في حوار وثيق مع الأكراد، وكذلك مع مختلف القبائل، الذين طلبوا مزايا مثل إعادة بناء الجسر عبر نهر الفرات الذي نسفه التحالف الدولي لهزيمة داعش. ويطبل ويزمر الدبلوماسيون الروس بزيارة وفد من مجلس العشائر السوري في الشمال الشرقي لروسيا عام 2014، قبل أن يعلن الكرملين عن خططه للتدخل في البلاد. لكن في الواقع، تستخدم موسكو الحيلة القديمة المتمثلة في الترويج لسياستها الخاصة وسط خلافات بين القادة المحليين على أنها مقبولة من الشعب السوري.
واستغلت موسكو وصول مجلس العشائر السورية، إلى جانب ممثلين عن القبائل الداعمة لإيران والأسد مثل نواف البشير إلى سوتشي عام 2018 كدليل على حضور ممثلين عن كل الجماعات العرقية والطوائف السورية في الحدث، وبالتالي إعطاء الزخم لتشكيل اللجنة الدستورية السورية. وقد ساعد على هذا الادعاء دور السياسي المعارض أحمد الجربا كوسيط في العملية. ومع ذلك، تواصل دمشق توجيه الثغرات في عمل اللجنة، بل إن النظام يرفض استيعاب كيانات مثل مجموعة القاهرة – جماعة معارضة صديقة لموسكو – في النظام السياسي. كل هذا يعني أن احتمالات إجراء أي تغييرات جادة في الدستور ما زالت بعيدة.
علاوة على ذلك، وبعد التصعيد في إدلب، تأخذ أنقرة في الاعتبار محاولات موسكو الموازنة بين تركيا وخصومها الإقليميين بهدف تقييد الدور التركي في اللجنة الممثلة للمعارضة.
أخبر أحد الخبراء الأكراد الكاتب أن الجيش الروسي لا يمكنه تقديم مكافآت مالية أفضل للأكراد من النظام الحالي الذي تديره قوات سوريا الديمقراطية، ومع ذلك “ما زلنا نستفيد من استمرار مشاركة الروس في الحوار ووجودهم في شمال شرق سوريا”، وهم يجادلون بأن هذا يسمح للروس بتعزيز ثقتهم، مع التأكد أيضًا من بقاء باب الحوار مع أسد مفتوحًا، وإلا فإن ميليشيا أسد في مناطق مثل القامشلي ستُمحى في غضون أيام.