ياسر بدوي
سؤال يتكرر بصيغ مختلفة للتعبير عن التغير الذي يطرأ على الموقف الأمريكي من الأزمة السورية ، بعد أي تصريح من أركان الادارة الأمريكية أو المنتقدين لها من داخل الادارة نفسها أو من المنافسين، وعل التصريحات الأخيرة كانت قوية وتوحي بتغير محتمل لقواعد الاشتباك المتفق عليها. سوزان رايس، مستشارة الأمن القومي للرئيس الأميركي باراك أوباما قالت في تصريح متلفز، أن بلادها تقدم أسلحة “فتاكة وغير فتاكة” للمعارضة المسلحة المعتدلة في سوريا، في تطور واضح التي دأبت الولايات المتحدة عليه حيث كانت تزعم حتى الآن أنها تكتفي بتقديم دعم غير فتاك للمعارضة السورية خوفا من وقوع الأسلحة بأيدي “مجموعات متطرفة” في سوريا. أن قراءة الموقف الأمريكي والتغيرات التي يمكن أن تطرأ عليه ينبع من الاستراتيجية الأمريكية التاريخانية للعالم والمنطقة وموقع سوريا ضمن هذا النمط السياسي الذي تعمل على صياغته ادارة أوباما، وكذلك العوامل المؤثرة في هذا المسار والتي تلعب الأدوار الكبرى في زحزحة التوجهات الأمريكية. إن استمرار النظام السوري على هذه الحالة التي وصل إليها وأوصل الشعب السوري يعكس الارباك الأمريكي تجاه النظام السوري، وطرائق التغيير بعد العقدة الأمريكية من التغيير بالقوة التي نفذتها مع نظام صدام. جربت ادارة الجمهوريين تغيير سلوك النظام، لكنها لم تستطع ادخاله في المنظومة التي تريدها، وإبعادها عن الدائرة الإيرانية، رغم التعاون الذي أبداه النظام السوري مع وكالات الحكومة الأمريكية في مكافحة الإرهاب، وزاد هذا الضغط بصورة غير مسبوقة بعد سقوط نظام البعث في العراق عام 2003، الأمر الذي وصل إلي درجة تصميم الرئيس الأمريكي السابق بوش الابن بعد نجاحه في ولايته الثانية في 2004 علي الدفع باتجاه التغيير في سوريا، في خطوة كانت توحي بأن الإدارة الأمريكية لا تري استراتيجيتها الجديدة في الشرق الأوسط إلا من خلال عملية “استبدال” سياسي للنظام السوري، وزادت وتيرة هذا الضغط بسحب السفيرة الأمريكية في دمشق مارجريت سكوبي علي أثر اغتيال رئيس وزراء لبنان رفيق الحريري في شباط 2005، ولعبت الإدارة الأمريكية دوراً أساسياً في خروج سوريا من لبنان في العام نفسه، بعد صدور قرار مجلس الأمن رقم 1559 الذي طالب بإنهاء الوجود السوري في لبنان الذي استمر عقود طويلة، كما ضغطت علي النظام السوري عبر التلويح بعصا المحكمة الدولية المكلفة بالتحقيق في قضية اغتيال رفيق الحريري رئيس وزراء لبنان، ووصل الضغط إلي تحليق الطيران الإسرائيلي فوق القصر الرئاسي في اللاذقية في 28 حزيران 2006 على خلفية اتهام إسرائيل سوريا بدعم حماس وفصائل المقاومة، ثم تدمير الطائرات الإسرائيلية لموقع “الكبر” بدير الزور في تشرين الثاني 2007 بوصفه موقعاً سرياً للبرنامج النووي السوري، وكذلك توجيه المقاتلات الأمريكية ضربات عسكرية إلي مواقع سورية علي الحدود العراقية في منطقة “البوكمال” في العاشر من 2008، باعتبارها نقطة عبور رئيسية للمسلحين الأجانب إلي العراق، مما فرض في النهاية عزلة دولية وشكل حصاراً سياسيا محكما علي النظام السوري. لكن كل هذه الضغوط الأمريكية بالتعاون مع حلفائها الإقليميين من محور الاعتدال لم تنجح في خضوع النظام السوري للمطالب الأمريكية الرئيسية المتعلقة بالملفات الإقليمية المهمة، وعندما أعادت الولايات المتحدة تقييم سياستها تجاه سوريا منتصف عام 2007 كانت ترى أن التعاون مع دمشق مفيد في دفع مصالح الولايات المتحدة الأمريكية علي عدة جبهات بما في ذلك مستقبل العراق واستقراره، وعلي المدى الطويل خلق دولة قابلة للحياة في لبنان، والمساهمة في تحقيق السلام مع إسرائيل علي كافة الجبهات، وإذا تخلت دمشق عن أيديولوجيتها كان يمكن تحجيم نفوذ إيران في المنطقة وخلخلة توازنها الإقليمي، بالإضافة إلي الحاجة إلي التعاون بين سوريا ووكالات الحكومة الأمريكية لملاحقة القاعدة وحلفائها، وفي النهاية سيعزز الاشتباك الدبلوماسي والاقتصادي بين سوريا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي القوي الإصلاحية في سوريا بما في ذلك أعضاء الطبقات المهنية والتجارية ومن ثم تسريع جهود دمجها في الاقتصاد العالمي. لكن تلك الملفات امتلكت فيها سوريا رصيدا كبيرا من المناورة وقدرة فعلية علي التأثير، لهذا زاد الارتباط السوري الإيراني وساهمت سوريا بقدر كبير في إرباك الحسابات الأمريكية في المنطقة وكانت حائلاً دون تقدم المخططات الأمريكية نحو الشرق الأوسط الجديد، بل شهدت المنطقة تطورات أهمها حرب في لبنان 2006، وأخرى في غزة مطلع 2009، ولم تتمكن إسرائيل والولايات المتحدة من تحقيق إنجاز عسكري أو سياسي حاسم فيهما بل ثبت بما لا يدع مجالا للشك مدي تأثير الدور السوري، وتأكد أيضا فشل الاستراتيجية التي اتبعتها إدارة بوش الابن تجاه سوريا منذ عام 2002. وقد عكست رحلات قامت بها وفود من أعضاء الكونجرس الأمريكي ترأستهم رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي في أغسطس 2007 إلي سوريا حقيقة وجود خلاف داخل أجهزة صنع القرار في الولايات المتحدة تجاه بدائل التعامل مع النظام السوري بين التشدد والعزلة أو التفاهم والتقارب، وقد كان رهان “فرنسا – ساركوزي” علي إنهاء العزلة عن سوريا مقابل إحداث سوريا تقدما في بعض الملفات المعقدة وأولها الملف اللبناني سابق لتبلور سياسة أمريكية واضحة، وبدا هذا واضحاً خلال مؤتمر الاتحاد من أجل المتوسط الذي عقد في باريس والذي دعا فيه ساركوزي بشار الأسد، ثم من خلال زيارة ساركوزي إلي دمشق في 2008 والتي أعقبها القمة الرباعية في دمشق بين زعماء كل من فرنسا وسوريا وتركيا وقطر، ثم مناشدة الرئيس الفرنسي الاتحاد الأوروبي لإنهاء معارضته لعضوية سوريا في الرابطة الاقتصادية للاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلي بيع طائرات “إيرباص” إلي دمشق، وإعطاء الضوء الأخضر لشركتي “توتال” و”لافارج” لتوقيع صفقات تجارية كبري مع سوريا، وهو ما مهد الطريق لزيارة وزير الخارجية السوري وليد المعلم إلي لندن في شهر أكتوبر من العام نفسه. وكان من الواضح أيضاً في هذا السياق أن سوريا هدفت إلي اختراق الحصار الأمريكي عبر الأبواب الأوروبية، خاصة مع اقتراب نهاية عهد جورج بوش، والاستعداد لإدارة جديدة في البيت الأبيض، لابد وأن تقوم بإعادة تقييم سياستها تجاه المنطقة، وبالتالي خلق واقع جديد أمام هذه الإدارة فيما يتعلق بالسياسة الأمريكية تجاه دمشق. ومع قناعات الديمقراطيين الذين فازوا بأغلبية مقاعد الكونجرس الأمريكي في 2008 بفشل سياسة الجمهوريين في التعامل مع سوريا، وضرورة تغيير الاستراتيجية الأمريكية، وأيضاً في إطار رغبة الرئيس اوباما بعد فوزه نهاية العام نفسه في إحداث نقلة نوعية في سياسة الولايات المتحدة الخارجية تصحح الصورة التي خلفتها إدارة بوش، الأمر الذي توافق مع رغبة النظام السوري في الاستفادة من هذا التحول الأمريكي، بدأ الطرفان السوري والأمريكي مرحلة “اختبار نوايا” اتسمت “بالترقب والحذر” عبر اتصالات لعدة شهور، انتهت بقرار عودة السفير الأمريكي إلي دمشق، وبتقييم نتائج هذه المرحلة نجد أن سوريا كانت المستفيد الأكبر من هذا التطور حيث أنها استطاعت إنجاز سياسة خارجية متميزة مكنتها من إعادة الموضع إقليمياً، والوقوف علي أرض ثابتة بعد أن أنجزت شبكة من العلاقات الإقليمية والدولية هي اقرب إلي تفهم مواقف سوريا، وأصبحت رقماً لا يمكن تجاهله عند أية ترتيبات في المنطقة، وبالتالي وضع النظام نفسه بمنأى عن تكرار السيناريو السابق من العزلة والعقوبات، وفي المقابل لم تجن الولايات المتحدة والغرب جراء سياساتهم الجديدة تجاه دمشق ما كانت ترنو إليه. الموقف الأمريكي المرتبك من الأزمة السورية الحالية والتردد تجاه بدائل التعامل معها هو منطقي بالنظر إلى التحديات التي يفرضها ببقاء النظام أو تغييره تجاه التقدم في أي من هذه الملفات التي يمتلك النظام السوري قدرة كبيرة علي التأثير فيها، لهذا فإن بعض دوائر الاهتمام بالأزمة في الولايات المتحدة عادت لمربع الجدل المتجدد حول بدائل الحركة نحو سوريا. لكن هذه المرة تحت وطأة متغير داخلي وهو ثورة شعبية داخلية في بلد محوري في الشرق الأوسط بما يحمله ذلك من فرص ومخاطر علي المصالح الأمريكية في المنطقة، لهذا برز من داخل دوائر صنع القرار الأمريكي من يتبني مبدأ التدخل العسكري لحماية المدنيين وبين من يعارضون ذلك ويميلون لبدائل مختلفة، وتحت وطأة هذا الجدل الذي بدأ مع التدخل في ليبيا حول حدود التدخل الخارجي سن الكونجرس تشريعاً لا يسمح للرئيس منفرداً باستخدام القوة تجاه سوريا ولا إعلان الحرب عليها. ورغم ما تمثله الأزمة الإنسانية التي يعانيها الشعب السوري من أداة ضغط كبيرة علي صانع القرار الأمريكي حيث أن تصدير المشاهد المأساوية اليومية عبر وسائل الاتصال المختلفة يثير الرأي العام العالمي وداخل الولايات المتحدة نفسها، ويضع مصداقية منظومة القيم الغربية علي المحك، خصوصاً مع تمادي النظام في ارتكاب المجازر الوحشية. فإن أنصار عدم التدخل يري أن الخطر الحقيقي يتمثل في تمدد نفوذ الجماعات “المتطرفة” بجانب توافد المقاتلين الأجانب وعناصر تنظيم القاعدة علي الاستقرار في سوريا وفي المنطقة بأسرها، حيث تجد هذه الجماعات في مناطق الاضطرابات بيئة ملائمة لممارسة نشاطها، كما سيتيح الفراغ الأمني نتيجة تصاعد العنف أو سقوط النظام لهذه المجموعات مكانة مؤثرة بفضل تنظيمها الذاتي القوي وقدرتها علي توفير الدعم المادي والعسكري والبشري وبمساعدة أطراف إقليمية أخري، وسيساعد نمو هذه الجماعات جغرافية سوريا الإقليمية باعتبارها عاملاً جاذباً لكثير من العناصر المعادية للولايات المتحدة وإسرائيل باعتبار سوريا ممراً مهماً مباشراً نحو عدوها اللدود إسرائيل، وموقعاً استراتيجياً لضرب مصالح الولايات المتحدة في المنطقة بأسرها، علاوة علي أن انهيار السلطة المحلية قد يؤدي إلي حرب أهلية وقتال ذي خلفيات دينية أو إثنية أو عرقية قد تتمدد خارج حدود سوريا، وهذه العوامل بلا شك تمثل تعقيدات مهمة تؤثر علي المصالح الأمريكية بجانب خبرة السنوات العشر الأخيرة في التدخل العسكري الخارجي في أفغانستان والعراق، وانتهاء بالأزمة المالية العالمية واستراتيجية أوباما نفسها التي لا تعتمد علي التدخل العسكري المباشر بل في إطار منظومة دولية وإقليمية أكثر تواؤماً وتفاهماً ومشاركة، لكن أمام تطور عناد النظام والسير في استحقاق الانتخابات الرئاسية جعلت الولايات المتحدة تصعد في اللهجة لتغيير قواعد الاشتباك عبر مد المعارضة المعتدلة بالسلاح الفتاك الذي يترجم بمضادات الطيران، للسير في العملية السياسية التي تكتمل مع نضوج المفاوضات حول النووي الايراني الذي تعقد اليوم بشكل مباشر وعلني بين الولايات المتحدة وايران، والباقي في تغيير المواقف الأمريكية بلورة الجسم المعارض الذي يستطيع دخول اللعبة والاستحقاقات القادمة مهما كان شكلها، ولعل هذا التطور والمقدرة على عزل القاعدة عن المقاتلين يساهم في حسم الموقف الأمريكي وتصبح الكرة في ملعب النووي الايراني وأمن اسرائيل.