شكلت سوريا أحد أهم المرتكزات الاستراتيجية في خارطة التمدد الإيراني إقليميا، وهو ما يفسّر دعمها اللامحدود لنظام بشار الأسد في مواجهة الثورة الشعبية التي انطلقت عام 2011، حيث عملت على توفير الدعم الفني والاستشاري بغرض إخماد المظاهرات السلمية.
ثم تطور دور إيران، بحلول مارس/ آذار 2013، من خلال تأسيس قوات تعبئة رديفة لجيش النظام، تحت مسمى “الدفاع الوطني”، والعمل لاحقا على تشكيل ميليشيات محلية، واستقدام ميليشيات أخرى من بلدان عديدة، إلى جانب قواتها من الحرس الثوري، حتى بلغ مجموعها بحلول عام 2015 ما يزيد على 100 ألف مسلح.
بعد التدخل العسكري الروسي في سوريا في سبتمبر/أيلول 2015، وظّفت إيران ميليشياتها في المجهود الحربي، الذي قادته موسكو ضدّ المعارضة السورية، مما حمى نظام الأسد من السقوط، وعزز نطاق سيطرته الميدانية بشكل تدريجي.
في عام 2017، ذهبت إيران لجهة شرعنة وجود مليشياتها بهدف حمايتها من الملاحقة دوليا، عبر وضعها تحت مسمى “الجيش الشعبي”، ودمج بعضها في الهياكل الرسمية لجيش النظام.
وتم دمج ما يسمى بلواء الإمام الحسين في تشكيلات الفرقة الرابعة، إلى جانب اعتبار المجندين الشيعة السوريين العاملين مع حزب الله ضمن قطعات الجيش النظامية، وإن بَقُوا فعليا تحت قيادة الحزب.
في عام 2018 أعادت إيران تنظيم وجودها العسكري في سوريا، نتيجة استهداف الضربات الإسرائيلية المتكررة مواقعها الحساسة في العمق السوري، وتماشيا مع الترتيبات الميدانية الناجزة مع بعض الأطراف الإقليمية والدولية، عقب انحسار تنظيم “الدولة” ولا سيما في الجنوب والشمال الغربي السوري.
** التموضع العسكري الإيراني بسوريا بعد اغتيال سليماني
شكل اغتيال قائد فيلق القدس قاسم سليماني في بغداد، بتاريخ 3 يناير/ كانون الثاني 2020، قاصمة الظهر بالنسبة للنشاط الإيراني العابر للحدود، وأحد المنعطفات الرئيسية في معادلة الصراع الدائر في المنطقة، حيث ترك الباب مفتوحا على مصراعيه، أمام احتمالات التصعيد بين إيران والولايات المتحدة.
ميدانيا، حدثت تغيّرات مكثفة على الوجود العسكري الإيراني في سوريا، بعد تعيين العميد إسماعيل قاني قائدًا لفيلق القدس خلفا لقاسم سليماني، حيث شهدت ستّ نقاط عسكرية رئيسة في دير الزور والبوكمال، من أصل تسع نقاط، تغيّرات متباينة.
كما امتدت التغيّرات إلى أربع نقاط عسكرية من أصل سبع نقاط في محافظة حمص، في حين كان التغيّر محدودا جدا على مستوى محافظة حلب، كما لم تلاحظ تغيّرات تذكر على النقاط العسكرية الإيرانية في محافظات دمشق وحماة ودرعا والرقة.
أما عن طبيعة المناطق التي امتدت إليها التغيّرات، فكانت مستودعات للأسلحة تستخدمها الميليشيات الإيرانية، كما في البوكمال والميادين ومطار التياس وبحيرة قطينة في حمص، أو مطارات توجد فيها قوات إيرانية، أو يستخدمها حزب الله، كما في مطارات الحمدان في دير الزور والضبعة في حمص والنيرب في حلب.
وقد شمل الجزء الأكبر من التغيّرات التي امتدت إلى النقاط العسكرية الإيرانية، النقاط التي توجد فيها قوات من الحرس الثوري الإيراني وحزب الله، والميليشيات الشيعية الوافدة من الخارج، حيث تم سحب هذه القوات، والاستعاضة عنها بقوات محلية موالية لإيران، من تشكيلات الدفاع المحلي أو الفرقة الرابعة.
** تداعيات مقتل سليماني على الوجود العسكري الإيراني بسوريا
تم تقسيم مسؤوليات سليماني الرئيسية بين أربعة أشخاص: أحدهم الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، وثلاثة من كبار المسؤولين الإيرانيين، هم العميد الجنرال محمد حجازي، نائب قائد فيلق القدس الجديد، والذي تم تكليفه بالاتصال بحزب الله وبمشروع الصواريخ الدقيقة، وعلي شمخاني رئيس مجلس الأمن القومي الإيراني، والأمير علي حاجي زادة قائد سلاح الجو في الحرس الثوري الإيراني، الذي تعتبره الأجهزة الأمنية الغربية “قنبلة موقوتة”.
ويتحمل علي حاجي زادة مسؤولية إسقاط طائرة الركاب الأوكرانية فوق الأجواء الإيرانية في يناير/ كانون ثاني الماضي.
** هل بدأت إيران بتقليص وجودها العسكري في سوريا؟
ذكرت مصادر أمنية إسرائيلية رفيعة المستوى، أنه لأول مرة منذ بدء الحرب السورية في عام 2011 ، ظهرت مؤشرات حقيقية على أن إيران قد بدأت بالانسحاب من الأراضي السورية، بعد عمل شاق ودؤوب هدفت من خلاله إلى تحويل سوريا كمنصة ومحطة انطلاق لنشاطها في المنطقة، ونقطة تخزين وعبور للأجهزة العسكرية المتطورة، التي ترسلها إيران لحزب الله اللبناني.
مصدر أمني إسرائيلي صرح للمونيتور قائلا: “لقد توقف النشاط على جبهة التهريب”. “هناك أيضا انخفاض كبير في الوجود العسكري للقوات الإيرانية والميليشيات الشيعية المتحالفة معها”.
ثمة أسباب دفعت إيران إلى التخلي عن جزء معتبر من استثمارها الهائل في سوريا في السنوات الأخيرة، حيث تأتي العقوبات والضغوط الأمريكية القصوى على طهران، في مقدمة تلك الأسباب، ثم جاءت أزمة كورونا لتضيف بعدا داخليا يضاف لأزماتها الخارجية.
إسرائيل من جانبها وبالتنسيق مع الأمريكان والروس، دخلت على الخط، بعد أن وجدت الفرصة سانحة والظروف مواتية، فضاعفت من نشاطها ضد المصالح الإيرانية في سوريا، من خلال الهجمات المتصاعدة ضد البنية التحتية التي صرفت عليها إيران الكثير من الوقت والجهد. واستهداف المواقع الإيرانية الحساسة في سوريا، في وقت يحاول فيه الإيرانيون الإفاقة من صدمة مقتل الجنرال قاسم سليماني قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني.
لم يخفف تقسيم مسؤوليات سليماني، من وطأة التهديد الكبير الذي يواجه مستقبل نشاط إيران الخارجي.
كما فاقمت كل من أزمة “كوفيد 19” والهبوط الدراماتيكي لأسعار النفط العالمية من أزمة إيران، ودفعت اقتصادها نحو هاوية لن يكون خروجها منها أمرا هيناً.
وتقول مصادر استخباراتية غربية إن الميزانية السنوية لإيران وصلت إلى أدنى مستوى لها منذ عقد من الزمن، بسبب تقديرات وقراءة خاطئة، أدت إلى انحراف في التوقعات بلغ 60 مليار دولار في صادرات النفط.
محلل اقتصادي غربي قال لـ”المونيتور”: “في الواقع ، صدّرت إيران العام الماضي نفطًا بقيمة 20 مليار دولار فقط، ولن يزيد المبلغ هذا العام وهذا سيجبرهم على استخدام احتياطياتهم المتبقية من العملات الأجنبية للبقاء على قيد الحياة هذا العام”.
يعول الإيرانيون كثيرا على هزيمة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في انتخابات نوفمبر/ تشرين ثاني المقبل، على الرغم من أنهم لا يستطيعون التأكد من أن خلفه سيرفع العقوبات الاقتصادية الأمريكية على الفور، إلا أنه أملهم الوحيد الآن.
ويأمل الإيرانيون في إحداث تحول في حملة “الضغوط القصوى” الأمريكية ضدهم، لكن الإدارة في واشنطن، وعلى رأسهم ترامب نفسه ووزير الخارجية مايك بومبيو، أكدوا أكثر من مرة أن الولايات المتحدة لا تنوي تخفيف العقوبات المفروضة على إيران.
حاول نظام الأسد الاستفادة من اختلاف الأجندات الإيرانية والروسية في سوريا، ونجح إلى حد ما في توظيف الخلافات الروسية الإيرانية لصالحه، لكن مياه كثيرة جرت من الجسر خلال سنوات الصراع الطويلة، أدت إلى تغييرات كبيرة في موازين القوى.
فقد أصبح استمرار الوجود الإيراني في سوريا باهظ التكلفة بالنسبة لنظام الأسد نفسه، كما زادت وتيرة الضغوط الروسية على دمشق، حيث اعتبر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين منذ فترة، وجود الإيرانيين في سوريا عائقا وعبئا ثقيلا وليس رصيدا.
اقتصاديا، ثمة مواجهات تجري في دمشق، طرفاها الظاهران، رامي مخلوف ابن خال رئيس النظام، والذي كان يسمى حتى عهد قريب “خزينة النظام” من جهة، وأسماء الأسد في الجهة المقابلة.
لكن غالبية المطلعين على الشأن السوري، يضيفون بعدا خارجيا لهذا الصراع، حيث تقف روسيا خلف رامي مخلوف، بينما تقوم إيران بدعم رجال الأعمال الذين يحلون محله من المقربين منها.
بالتوازي مع نمو وتعاظم دورها في سوريا، قامت إيران بدعم مجموعة من رجال الأعمال السوريين الجدد الموالين لها، منهم مجموعة قاطرجي ووسيم قطان وسامر الفوز الذي اشترى حصص فندق “فورسيزونز” من مخلوف وآخرين.
وتركزت أعمال هؤلاء في استيراد مواد غذائية ومشتقات نفطية بتسهيلات إيرانية، وصفقات نقل النفط من مناطق سيطرة حلفاء أمريكا شرق سوريا ومناطق الحكومة.
كما برز دور رجال أعمال شباب، بينهم محيي الدين مهند دباغ ويسار إبراهيم، في عقود لعل أبرزها واحد لتشغيل الهاتف النقال في سوريا مع شركة إيرانية تابعة للحرس الثوري الإيراني، وعقد آخر يتعلق بالبطاقة الذكية التي تضبط مشتريات المواطنين.
** خيارات طهران الصعبة
رغم الضربات المؤلمة التي تتعرض لها إيران في سوريا، والثمن الباهظ الذي تدفعه لبقائها، ومقتل عدد كبير من نخبة حرسها الثوري هناك، والظروف الاقتصادية والاجتماعية الخانقة التي تعاني منها داخليا، إلا أن هذا لا يعني أنها بوارد الانسحاب من سوريا.
فقد أمّن لها وجودها هناك موقعا استراتيجيا هاما، وعزز من مكانتها الدولية في المنطقة، فمن خلال الوجود في سوريا ولبنان واليمن والعراق، عزَّزت إيران من أوراق المساومة السياسية التي تمتلكها في الشرق الأوسط.
لكن القرار الأمريكي- الإسرائيلي بموافقة ضمنية روسية، بإخراج إيران من سوريا، سيضع طهران أمام خيارين أحلاهما مر، فهي ستخسر إن انسحبت، وستخسر إن بقيت مع استمرار الأمريكان والإسرائيليين في استهدافها واستنزافها.
أما خيار البقاء حيث لا يوجد في الدوائر العسكرية والأمنية ولا حتى السياسية في إيران من يتحدث عن الانسحاب من سوريا في المدى المنظور، بسبب ما يمكن أن يلحقه ذلك من ضرر بطهران، وما سيرافقه من تراجع إن لم يكن انهيار نفوذها في المنطقة برمتها.
بالنظر لتركيبة النظام الإيراني وسيكولوجيته، يبقى خيار البقاء في سوريا هو الأرجح، مع التعويل على التغييرات التي يمكن أن تحدث في واشنطن. (الأناضول)
نقلا عن القدس العربي