مثّل سقوط نظام بشار الأسد في كانون الأول (ديسمبر) 2024 ضربة استراتيجية كبيرة لإيران لم تشهدها منذ عقود طويلة. فكانت سوريا لعقود حجر الزاوية في “محور المقاومة” الذي تبنته طهران، حيث قدمت لها بُعدًا استراتيجيًا وحلقة وصل حيوية لدعم حزب الله ومواجهة إسرائيل من خلال الصراعات بالوكالة. وبعد سقوط الأسد، دخلت إيران مرحلة حرجة من إعادة ترتيب أوضاعها، حيث تتذبذب قيادتها بين إطلاق تهديدات غامضة، واتخاذ خطوات دبلوماسية، ومحاولات ترويع الاستقرار في سوريا بهدف استعادة جزء من نفوذها الضائع.
رد فعل القيادة الإيرانية: من التهديد إلى البراغماتية
منذ الإطاحة بالأسد، أطلق المرشد الأعلى علي خامنئي تهديدات متكررة ضد الحكومة السورية الجديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع. ففي خطاب له في 10 أيار (مايو) 2025، وصف خامنئي تحركات قوى المعارضة السورية بأنها “علامة ضعف وليست قوة”، متوقعًا انهيارها الوشيك. تعكس هذه التصريحات، التي تحمل عداءً متجذرًا تجاه دمشق الجديدة، شعور إيران بالإحباط والهزيمة بعد عقود من الاستثمار في نظام الأسد.
حتى الآن، تجنبت إيران أي تواصل مباشر مع الحكومة السورية الجديدة، مفضلة مراقبة تطورات الأحداث قبل اتخاذ قرار بشأن مستقبل العلاقات الثنائية. وقد أوضح المسؤولون الإيرانيون أن موقف الحكومة السورية الجديدة من إسرائيل و”محور المقاومة” سيكون العامل الحاسم في تحديد طبيعة العلاقة المستقبلية، محذرين من اتخاذ أي خطوات مناوئة لطهران.
تبدل في التكتيكات: بين الدبلوماسية وزرع الفوضى
في حين حاولت وزارة الخارجية الإيرانية استخدام لغة دبلوماسية، تبنت الأجنحة المتشددة في طهران، خاصة الحرس الثوري، خطابًا أكثر تصعيدًا، مهددة باستغلال حالة عدم الاستقرار في سوريا لإعادة فرض نفوذها. كما سعت طهران إلى فتح قنوات تواصل غير رسمية مع القيادة الجديدة، وأوفدت مبعوثًا خاصًّا إلى دمشق في كانون الثاني (يناير) 2025، في إشارة إلى استعدادها للتفاوض رغم الأجواء المتوترة.
اتسمت سياسة إيران بالتناقض؛ فمن جهة حذرت من أن أي تفاهم سوري-إسرائيلي سيؤدي إلى قطع كامل للعلاقات، ومن جهة أخرى أبدت استعدادها للتعامل مع حكومة سورية ديمقراطية، بشرط ألا تكون معادية بشكل صريح لإيران.
يعتمد هذا النهج الواقعي على فرضية أن الغرب لن يفتح أبوابه بالكامل لسوريا أو يرفع عنها العقوبات، ما قد يدفع دمشق للعودة إلى المحور الإيراني-الروسي. ومع ذلك، فإن الدعم الإقليمي القوي لسوريا من الدول العربية وتركيا يمنع عودة إيران الكاملة، ويجعل العلاقات المستقبلية محصورة في الإطار الدبلوماسي دون الأبعاد الأمنية والعسكرية التي كانت سائدة في السابق.
استغلال نقاط الضعف: أدوات الوكالة والحسابات الإقليمية
سعت إيران لاستغلال هشاشة مؤسسات الدولة السورية وضعف سيطرتها على كامل الجغرافيا من خلال ثلاث أدوات رئيسية: فلول تنظيم “داعش”، حزب العمال الكردستاني، وقوات النظام الموالية التي لجأت إلى لبنان والعراق. وبالتنسيق مع حزب الله والميليشيات العراقية، تهدف إيران إلى إشاعة الفوضى في الساحل السوري ومناطق أخرى هشة، مستفيدة من ضعف الحراسة الحدودية وانشغال الدولة السورية بعملية الانتقال السياسي.
مع ذلك، تواجه هذه المساعي تحديات كبيرة. فالحكومة السورية الجديدة متمسكة بسيادتها وترفض أن تتحول سوريا إلى ساحة لتصفية الحسابات الإيرانية. كما أن مطالب الولايات المتحدة بالإبقاء على تصنيف الحرس الثوري وحزب الله كتنظيمين إرهابيين، إلى جانب الغضب الشعبي السوري من دور إيران خلال الحرب، كلها عوامل تحد من خيارات طهران.
الآفاق: فرص محدودة أمام النفوذ الإيراني
أدى سقوط نظام الأسد عمليًّا إلى تقويض المشروع الإقليمي الإيراني في سوريا، ودفعت طهران للبحث عن وسائل جديدة للتأثير أو على الأقل منع تحول سوريا إلى ساحة مفتوحة أمام خصومها. غير أن أدوات إيران التقليدية – الميليشيات والضغط السياسي – لم تعد فعالة في ظل مقاومة محلية وإقليمية ودولية قوية. ومع ضعف حزب الله وحماس جراء الهجمات الإسرائيلية الأخيرة، وابتعاد العراق عن لعب دور القاعدة للتدخل الإيراني، تبدو فرص طهران في استعادة موطئ قدمها السابق في سوريا ضئيلة. تسعى الحكومة السورية الجديدة إلى علاقات متوازنة دون العودة للمحور القديم، وأي محاولة إيرانية لزعزعة الاستقرار ستواجه على الأرجح برد حازم.
باختصار، انتهى زمن الهيمنة الإيرانية غير المقيدة على سوريا. الواقع الجديد ستحدده أولويات دمشق المتغيرة والمعطيات الإقليمية، لا طموحات طهران.