أشيع قديما أن الشرطة في خدمة الشعب، ولكننا أصبنا بصدمة عندما وجدنا أنفسنا في عصور تالية ضحايا للدول البوليسية، أي كنا نعيش في خرافة. أما الصدمة الأكبر، تلاشي خرافة «العلم في خدمة البشرية»، لأن العلوم صارت تدمر البشرية، مع الفارق أن ذلك يتم بطريقة ممنهجة، خالية من أي رحمة أو شفقة؛ لأنها تجري تحت مشرط جراح قاس لا قلب له ولا ضمير، يسمى بالعلوم المتقدمة.
وعند ذكر الآثار المناوئة للعلوم الحديثة، قد يتبادر للذهن اختراع الأسلحة، والقنبلة الذرية التي تم قذفها على هيروشيما وناجازاكي، أشياء من هذا القبيل. لكن العلوم التي صنعت الأسلحة المدمرة، أو حتى أسلحة الدمار الشامل تعد «رحيمة»، حينما يتم استحداث علوم يكون المستهدف تدميره الإنسان نفسه. فعند تدميرالعنصر البشري داخليا، لن يكون هناك أي حاجة لأسلحة تدميرية؛ فلن يكون لها أي جدوى حقيقية؛ لأن البشر سوف يصيرون لا حول لهم ولا قوة؛ مجرد قطع بشرية متراصة لا قيمة لها، مثل أي قطعة جماد، يمكن وضعها وتوظيفها في أي صيغة حسب رغبة المالك.
وعندما شاهدنا قديما أفلام مثل السعدان الإثنى عشر 12 Monkeys(1995)، ونظرية المؤامرة Conspiracy Theory (1995)، وإجراءات شاذة Extreme Measures (1996)، ومؤخرا سلسلة أفلام «بورن Bourne» كان أولها فيلم هوية بورن The Bourne Identity (2002)،، he Bourne Identityمثل نظرية المؤامرة ا لا قيمة لهم مثل أي قطعة زينة، يمكن هدف هو الإنسان نفسه. الفاغرق بطريقة ممنهجةت وغيرها من الأفلام التي تدور في هذا السياق، كنا نحسب أنها أفلام تنتمي لفئة الخيال العلمي؛ لأنه لا يوجد شيء يسمى السيطرة على العقل، لدرجة أنه يمكن محو ذاكرة فرد بصورة كاملة ليصير تابعا خانعا ينفذ أوامر أطراف تتحكم في عقلة عن بعد، حتى لو بعد غياب أو موت الرقيب عليه، لأنه يوجد دوما مفتاح لأي فرد مبرمج عقله، يمكن من خلاله تقفي آثار الشخص المبرمج بكل سهولة، حتى لو اختبأ لسنوات طويلة. ولكم كانت الصدمة عظيمة الوقع عند علمنا أن تلك الأفلام مستمدة من الواقع – حتى إن تدخل فيها خيال المؤلف – لأن الفكرة التي تم بناء الأحداث عليها هي أحداث حقيقية مستمدة من وثائق معتمدة. أما الصدمة الكبرى هي معرفة أن الواقع أشد قسوة مما تصوره الأفلام.
فقد كان أول ظهور لهذه السلسلة من الأفلام ذات الموضوعات الغريبة في عام 1995، وهو العام نفسه الذي تم فيه الافصاح عن مشروع إم كيه ألترا، الذي يستهدف التحكم في العقل البشري، وهو مشروع تابع لوكالة الاستخبارات الأمريكية، وتم تنظيم المشروع من خلال مكتب الاستخبارات العلمية التابع لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية CIA، بالتنسيق مع مختبرات الحرب البيولوجية التابعة للجيش الأمريكي United States Army Biological Warfare Laboratories. ويستهدف المشروع السيطرة على العقل البشري من خلال عمل تجارب نفسية وحسية على البشر، ولم يتوقف الأمر إلى هذا الحد، بل إنه تم تجريب عقاقير مخدرة غاية في الخطورة على العناصر البشرية محل التجربة، من أجل تطوير الطرق المستخدمة في الاستجوابات، من خلال تحديد وتطوير العقاقير والإجراءات الواجب استخدامها من أجل إضعاف الفرد، وإجباره على الاعتراف الكامل، من خلال السيطرة على عقله. وقد كانت تستحدث هذه الطرق إبان الحرب الباردة، لتكوين شبكة قوية من رجال الاستخبارات، وكذلك أيضا لإجبار الجواسيس الروس على الاعتراف، لمعرفة كل ما لديهم من معلومات.
كان أول ظهور لهذه السلسلة من الأفلام ذات الموضوعات الغريبة في عام 1995، وهو العام نفسه الذي تم فيه الافصاح عن مشروع إم كيه ألترا، الذي يستهدف التحكم في العقل البشري
وبالتأكيد، كان يتم ذلك بطرق غير قانونية، وبدون موافقة العناصر البشرية محل للتجربة. فقد كانت العناصر البشرية المستخدمة في المشروع تنتمي لفئات المساجين، والمرضى النفسيين، ومدمني المخدرات، والعاملين في البغاء، أي كما يقول أحد ضباط اامشروع: «جميعهم أفراد ينتمون لفئات لا تقوى على إثبات حقوقها». واستخدم المشروع أساليب عدة لتغيير الحالة الذهنية، ووظائف المخ للأفراد محل التجربة، من خلال تناول أدوية خاطئة بجرعات عالية. وكذلك تناول عقاقير تؤثر على الحالة النفسية، خاصة عقار إل أس دي LSD – الذي انتشر في الأسواق في ما بعد بين فئات مدمني المخدرات، على أنه واحدا من أشد عقارات الهلوسة. أضف إلى ذلك، كان يتم حقنهم بمواد كيميائية أخرى، وتعريضهم للصدمات الكهربائية، والتنويم المغناطيسي، والعزلة، والاعتداءات اللفظية والجنسية. ووصل الأمر أيضا لحرمانهم من الحواس، من خلال منعهم من الإبصارأو السمع لفترات طويلة. وتعريضهم لوسائل تعذيب أخرى، وخضوعهم لتأثير مخدرات مستحدثة. ولم يقتصر الأمر على هذا الحد، بل تم تجريب هذه الوسائل في طورها الأخير، على متطوعين من أفراد الجيش، في محاولة لتطوير «مصل الحقيقة» في شكله الأمثل، استعدادا لتجريبه على سياسيين كبار مثل فيدل كاسترو. وتمت التجارب تحت شيفرات تختص بالتجارب المتعلقة بالمخدرات وهي، مشروع الطائر الأزرق ومشروع الخرشوف Artichoke اللذان عند افتضاحهما، وجدت آلالف المستندات لممارسات غير قانونية، وعقارات مجرمة.
ويلاحظ بعد أن تمت الموافقة على المشروع بشكل رسمي عام 1953، وخفض نطاق إجرائه عام 1964، إلى أن صدرت الأوامر بتقليص التنفيذ عام 1967. وأخيرا، صدرت الأوامر بإيقاف التجارب، بعد أن اشتم خبرها الكثيرون عام 1973. فما كان من مدير وكالة الاستخبارات الأمريكية CIA في ذلك الوقت، ريتشارد هيلمز، إلا أن أمر بإتلاف أغلب سجلات مشروع إم كيه أولترا، فصار من الصعب على المحققين فهم أكثر من 150 مشروعا بحثيا تم تمويله برعاية برنامج إم كيه أولترا، وبرامج أخرى من الاستخبارات المركزية وثيقة الصلة به. وفي عام 1975، تم افتضاح المشروع في الكونغرس الأمريكي. واستمرت التحقيقات ومحاولة فهم المشروع، إلى أن قام مكتب المحاسبة العامة في الولايات المتحدة US General Accounting Office باستصدار تقريرا في 28 سبتمبر/أيلول 1994 يذكر فيه قيام وزارة الدفاع وغيرها من أجهزة الأمن القومي بوضع آلاف من البشر تحت اختبارات وتجارب متعلقة بمواد خطرة بين عامي 1940 و1974.
وعلى هذا، في السنة التالية تم إنتاج الأفلام السالفة الذكر، لتدوين أحداث تاريخية حقيقية. وبالطبع، إن كان هذا المشروع قد تم فضحه في الولايات المتحدة، فهناك آلاف المشروعات المشابهة ليس في الولايات المتحدة فقط، بل في أماكن أخرى من العالم تجري في طي من الكتمان والحرفية، على عناصر بشرية عشوائية بشكل غير مباشر، ومن خلال استحداث أنواع أخرى من البرمجة العقلية، والمخدرات التي صار تناولها علنا، دليلا على التحضر والجاذبية. قديما قالوا «العقل زينة» إجلالا لدوره، وحاليا صار قطعة زينة لا قيمة لها.
المصدر القدس