د. سمير صالحة – خاص ترك برس
احتمالات نجاح الاتفاق البدعة “مناطق تخفيف التوتر” بين موسكو وأنقرة وطهران فوق جزء من الأراضي السورية كبيرة، لكن أسباب التوقعات بالفشل كثيرة أيضا.
شراكة ثلاثية بين لاعبين من المفترض أن مصالحهم متضاربة متباعدة في الملف السوري تظهر إلى العلن بقدرة قادر على هامش اجتماعات أستانة، لتتحول إلى شركة مساهمة ضامنة محدودة المسؤولية، بغاية غير ربحية، هدفها تقديم خدمات أمنية وسياسية وإنسانية مجانية للشعب السوري، رغما عنه، وبالمعايير والمواصفات التي حدّدتها رؤى الفرقاء الثلاثة، تحت غطاء لا خيار آخر أمامكم، وثقوا بما نقول، وحقل التجارب السوري قادر على استيعاب مزيد من الاختبارات بعد.
فجأة، تعلن روسيا وتركيا وإيران عن قرار تبديل القبعات إلى زرقاء هذه المرة. كان الشريك الأممي ستيفان دي ميستورا حاضرا للترحيب بالخطة الروسية، ووصفها بأنها تحرك في الاتجاه الصحيح لوقف حقيقي للقتال. والخارجية الأميركية، على الرغم من تحفظها وتشكيكها في مشاركة إيران دولة ضامنة فيما هي متهمة بقتل الشعب السوري “تقدّر جهود التهدئة التي بذلتها الدولتان الضامنتان، روسيا وتركيا، باتجاه المساهمة في تخفيف التصعيد، ووقف معاناة الشعب السوري والتمهيد لحل سياسي للنزاع”. أوروبا أيضا تريد الخروج بأسرع ما يكون من تهديد موجات اللجوء التي يحرّكها المشهد السوري، ولذلك رجحت التأييد الخجول. كثير من دول المنطقة، وكعادتها، متردّدة أو منقسمة، حيال ما يجري، وهو أكبر ما يمكن أن تقدمه للإخوة السوريين الذين ورّطوا الجميع بثورتهم على النظام قبل ست سنوات.
سؤال: لماذا لم تحمل موسكو مشروعها السوري إلى مجلس الأمن، ليناقش هناك، ويحظى بالدعم والتأييد والإجماع الدولي؟ هل كانت تخاف الفيتو الأميركي الأوروبي، أم هي أرادت عدم إشراك بعضهم في خطتها لتحصن مواقعها الإقليمية، وتثبت أقدامها في المنطقة، عبر تكريس نفوذها في سورية؟
ماذا عن إيران؟ لا مشكلة عندها، هي جاهزة للحوار مع كل من يحمي حصتها، وهي آخر ما فعلته كان قبول اتفاقية التفاهم النووي مع أميركا، والدخول في حلقة من المساومات الإقليمية مع عدوها اللدود في كل مكان.
لماذا قبلت تركيا توقيع اتفاقيةٍ، ليس مع روسيا التي لم يعد لها خلافات معها سوى حول توقيت تصدير سلعة البندورة وتسعيرها، وتحديد نوعها، وجنسها المناسب، للمتذوق الروسي، بل مع إيران التي كان الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، قبل أيام، يتهمها باتباع “سياسة توسعية فارسية في المنطقة ستقود إلى توتر العلاقات وتراجعها، وتتسبب بانفجار أمني وسياسي بين البلدين”؟ هل لأن طهران نجحت، وبسرعة البرق، في إقناع أنقرة بأنها تخلت عن مواقفها التي تقلق الرئيس التركي، أم أن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، هو الذي استطاع إقناع أنقرة بفوائد تأسيس هذه الشراكة الثلاثية؟ أم هي البراغماتية اللعينة من حمى عدم انقطاع الخيط الرفيع الجامع بين تركيا وإيران؟
ربما وصلت أنقرة إلى قناعة بأن التفاهم مع إيران هو الحل الوحيد لإضعافها في سورية، وتقليص نفوذها، وتجنب ارتدادات أحلامها التي بدأت تقترب من مناطق الحدود التركية السورية في خط الساحل وإدلب نفسها. وما دفع أنقرة إلى توقيع اتفاقية أستانة أيضا هو اكتشافها نقاط الضعف الروسية في الملف السوري، وحاجة موسكو إلى قفزة سياسية إلى الأمام تقطع الطريق على العودة الأميركية، وتخفف عنها عبء التحالف مع النظام وإيران، وبالتالي، حاجة الكرملين لتركيا لإطلاق خطة تحرّك جديد من هذا النوع في سورية.
تقول الخارجية التركية إن الاتفاق الذي جرى التوصل إليه في كازاخستان سيشمل كل إدلب وأجزاء من حلب واللاذقية وحمص. وسيحظر استخدام جميع الأسلحة في تلك المناطق، ويحظر تحليق الطيران السوري، وسيسمح بإدخال المساعدات. احتمال أن يكون بين ما دفع السفير التركي، سدات أونال، لتوقيع الاتفاق في أستانة قناعته أنه سيوفر لأنقرة فرصة التقاط الأنفاس على جبهة شمال غرب سورية، والتركيز على مناطق شمال شرق البلاد، حيث تستعد واشنطن، مع حليفها الكردي هناك، لإعلان منطقة نفوذها الجديد ومحاصرة تركيا بالجغرافيا الكردية، وكان الحقيقة هي غير ذلك، تماما كما فعلت في شمال العراق.
الاتفاق بالنسبة لتركيا ربما هو أيضا فرصة لتخفيف التوتر على الجبهات السورية – السورية، والالتفات أكثر إلى معركة القضاء على “داعش”، بالتنسيق مع روسيا، هذه المرة، طالما أن واشنطن لا تريد أن تراها إلى جانبها في الرقة، فهل حصل التفاهم التركي الروسي على تحرّك سريع بهذا الاتجاه؟ وهل تكون المفاجأة الروسية المقبلة هي إعلان خطة التنسيق العسكري مع تركيا لمحاربة “داعش”، والقضاء عليه في سورية؟
بدأ الإعلام الكردي، المقرب من حزب الاتحاد الديمقراطي السوري، يشن هجماتٍ عنيفةً على تفاهم أستانة، ويصفه بالتآمر الثلاثي على سورية وشعبها. ردة الفعل الكردية هذه لا يمكن أن تكون عن عبث، أو تتم إرضاء لواشنطن. هناك قلق كردي أميركي من احتمالات حدوث تفاهم تركي روسي على المشاركة بالقوة، ورغما عن التحالف الأميركي الكردي في الحرب ضد “داعش”، وربما هذا هو بين الأسباب التي دفعت أنقرة لقبول الجلوس أمام طاولةٍ واحدة مع روسيا وإيران.
كانت رسائل الرئيس التركي من روسيا، قبيل لقائه بوتين، باتجاه واشنطن التي يستعد لزيارتها خلال أيام “أنقرة وموسكو قادرتان على تغيير مصير الشرق الأوسط في حال اتخاذهما قرارات جادة.. أنا مقتنع اليوم بأن الرئيس الروسي يريد إنهاء المأساة في سورية”. ربما غياب واشنطن، الحليف المفترض لتركيا، عن تحركها الحقيقي أمام الطاولة الثلاثية في لقاءات أستانة هو الذي دفع أنقرة أكثر نحو بوتين وموسكو. قبول الاتفاق الثلاثي بالنسبة لتركيا مرتبط أيضا بإصرار واشنطن على تحالفها المعلن مع “قوات سورية الديمقراطية”، وتمسّكها بلعب الورقة الكردية في سورية ضدها، كما فعلت في شمال العراق .
كان السؤال، قبل أسابيع، بشأن حظوظ وفـرَص اتفـاق أنقرة التركي الروسي لوقف القتال في سورية من دون مشـاركة ودور فاعـل لطهران وواشنطن، فكبرَ حجمه أكثر هذه المرّة إلى محاولة معرفة ما الذي يبحث عنه الأتراك والروس ليس في أستانة، بل في سورية؟ تفهم أنقرة الطرح الروسي حول ضرورة التنبه إلى الموقف الأميركي المرتقب في شمال سورية المتمسك بتكرار ما جرى على حدودها العراقية رافقته ضمانات روسية حول أن نظام الأسد لم يعد شرطا أساسيا في مستقبل سورية الجديدة، طالما أن أنقرة لن تعارض الدور والنفوذ الروسي في سورية.
وقد قبلت أنقرة المغامرة والتحدّي في التوقيع على اتفاقية أمنية عسكرية، نفترض أن الحلقة الأمنية والعسكرية الثانية فيها، وشقها السياسي لم يعلن بعد، وأنها ستطيح الحلم الإيراني السوري، عبر حمل طهران إلى الطاولة والتوقيع، لكنّها تعرف أيضاً أنّها تغامر بخسارة ما تملكه من فرص متبقية لها في سورية، وأهمّها خسارة رهان المعارضة السورية عليها، من دون التوقف مطولا عند احتمال التقارب الأميركي الروسي، في اللحظة الأخيرة حين يبعدها هي عن الطاولة.
آخِر ما ردّدته قوى المعارضة السورية في لقاء أستانة الثالث كان أنّ اللقاء سيبدأ بمادة الالتزام بتنفيذ شروط اتّفاقية أنقرة المخترقة إيرانياً، وبعدها ستتمّ عملية الانتقال إلى جدول الأعمال، وأنّها لن تدخل في أيّ حوار سياسي مباشر من دون ذلك. الصوت السوري الرافض الذي التقطته العدسات في أستانة الرابع لحظة تقدّم رئيس الوفد الإيراني للتوقيع على الاتفاق الثلاثي كان يردّد هذه المرة “مجرمون، قاتلون، أنتم تقتلون الشعب السوري”. التهم والإدانة هي لإيران، لكن الرسالة تعني تركيا الضامن باسم المعارضة في الاجتماعات أيضا.
المصدر:ترك بريس