خمس سنوات فترة ليست بالقصيرة حتى تتجمد في قبضة الحرب الأهلية. خمس سنوات هي مدة التعليم الأساسي في المدارس الابتدائية. وخمس سنوات هي كم هائل من مئات بل آلاف الذكريات في حياة إنسان واحد.
تحملت سوريا حتى الآن خمس سنوات من الحرب المستمرة. «ونحن نعلم الأرقام التي تعبر عن تلك الفترة العصيبة، فلقد مات خلالها نحو 470 ألف مواطن، وخلفت الحرب ما يقرب من 5 ملايين لاجئ، وأكثر من 6 ملايين نازح داخل البلاد التي مزقتها الحرب». انسحبت قوى المعارضة من محادثات السلام في جنيف الأسبوع الماضي. ولم تظهر أمارات المفاجأة على أحد قط. ومن يعش في سوريا تراوده آمال باهتة. فحينما تعيش الحرب طيلة هذه المدة، تعتاد بمرور الوقت على البؤس والشقاء، وعلى انعدام المياه، والكهرباء، والرعاية الطبية العادية.
ويحدث شيء آخر أيضا مع استمرار الحروب لفترات طويلة. حيث يسأم العالم من حولك من مشاهدة كم الصور التي تعكس الموت والدمار والخراب، والمستشفيات المحطمة والمدارس المدمرة، يسأمون من إحصائيات الجوع والاغتصاب وعدد القذائف التي تتساقط على المناطق المدنية. إن خمس سنوات من الحرب كفيلة بقتل الرحمة داخل قلوب الناس.
في أغسطس (آب) عام 2012، أثناء عملي في المراسلات الصحافية لهذه الجريدة، ذهبت إلى بلدة داريا السورية، وهي ضاحية سنية من ضواحي العاصمة دمشق، وكانت الزيارة برفقة صديقة لي تدعى مريم، إلى جانب والدتها المسنة. كان صباح ذلك اليوم حارا للغاية، وبعد فترة وجيزة تعرضت داريا – المعروفة بمعارضتها الشديدة لحكم الرئيس بشار الأسد – لحملة تطهير شرسة من قبل القوات الحكومية، (وثار نزاع حول تلك المذبحة، وبطبيعة الحال، ألقى النظام الحاكم باللائمة على الجماعات الإرهابية المسلحة في أعمال العنف التي شهدتها البلدة).
أزيلت جثث الموتى من الشوارع، ولكنني لا أزال أشتم رائحتها لاذعة وقوية ولا لبس فيها.
أردت الحديث مع شهود المذبحة، ولكن أغلب الناس، كانوا خائفين من قصف المروحيات وهجمات المدافع الرشاشة، وكانوا يختبئون منها في بيوتهم. ثم، في ميدان البلدة، التقينا ببعض من الناس الذين نالت منازلهم نصيبها من القصف. كانت أجسادهم مغبرة ومتربة، ولكنهم لا يزالون على قيد الحياة.
وقال أحد الرجال، وهو ميكانيكي قد أصيب بالعمى في إحدى عينيه بشظية من الشظايا، إنه ظل يبحث لمدة 3 أيام عن والده. ثم عثر عليه في النهاية، مستلقيا في أحد المنازل الريفية على أطراف البلدة برفقة ثلاث جثث أخرى، (وكانت الجثث لشباب تتراوح أعمارهم بين 16 إلى 20 عاما).
كيف يمكن لأحد أن يقتل رجلا عجوزا وضعيفا، وكان من الواضح أنه لا يقاتل أحدا؟ كما سأل الرجل، الذي قال: «ليست هذه سوريا التي أعرفها. عندما أرى الحزن والألم الذي يسري بين ربوع هذه البلدات أدرك أنها ليست سوريا التي أعرفها».
في داريا، استمر الحصار أكثر من ثلاث سنوات. وكان من المفترض للمحادثات المنعقدة برعاية الأمم المتحدة في جنيف أن تثير هذه المسألة، إلى جانب قضية الحكم في سوريا مستقبلا، ولكن حتى إذا استؤنفت المحادثات، فإن جنيف بالنسبة لسكان بلدة داريا كمثل كوكب بلوتو في البعد والمسافة. وفي الأسبوع الماضي، توصلت مسؤولة مكتب الأمم المتحدة في دمشق أخيرا إلى البلدة المحاصرة، ولكنها لم تتمكن من إدخال قافلة الإغاثة عبر الحصار.
وفي يناير (كانون الثاني)، في أحد الأيام، قصفت البلدة بنحو 75 قذيفة من الجو. ومن المقدر أن تكون الآلة العسكرية لبشار الأسد قد ألقت ما يصل إلى 7 آلاف برميل متفجر على داريا منذ يناير، حتى فبراير (شباط) الماضي.
ولقد أخبرني بعض ممن أعرف داخل البلدة أن هناك ما يقرب من 12 ألف مواطن فقط هم الباقين من أصل 170 ألفا كانوا سكان البلدة، والعدد المتبقي من السكان غير مستعدين للمغادرة بأي حال، ويعيشون على العدس والحبوب. ويقدر البعض الآخر تعداد سكان البلدة بـ6 آلاف مواطن فقط.
الشرق الأوسط