“الحياة”
بين دفتي الموت الصامت جوعاً ومرضاً والموت قصفاً بالصواريخ والقذائف، ودع أهالي اليرموك المحاصرين عام نكبتهم الثاني الذي بدأ في 16 كانون الأول (ديسمبر) 2012، مع ضربة الميغ، الغارة الجوية التي نفذها طيران النظام السوري على مركزي إيواء النازحين داخل المخيم وأسفرت عن سقوط عشرات القتلى والجرحى في صفوفهم، وأدت إلى فرار معظم سكانه إلى الداخل السوري أو إلى أصقاع الأرض، ولم يبق فيه سوى ما يقارب (20) ألف مدني من أصل حوالى (800) ألف بينهم (180) ألف لاجئ فلسطيني.
خلال عامين من الحصار الخانق استطاع النظام تحويل المخيم إلى سجن كبير أو (غيتو) تبدو ملامحه أكثر وضوحاً عبر الحصاد المر لأحداث عام الحصار الثاني (2014).
فقد بات المدنيون من ضحايا الجوع والمرض يتساقطون بازدياد مضطرد بسبب نقص المواد الغذائية واللوازم الطبية، علاوة على القصف والمعارك الدائرة. وعلى رغم طرح الكثير من المبادرات لتحييد المخيم وقيام الأهالي بالكثير من التحركات والمناشدات من أجل إنقاذهم، استمر النظام وحلفاؤه في المراوغة وزرع العقبات للحيلولة دون دخول المساعدات الغذائية، حتى رضخ أخيراً تحت وطأة الضغوط الدولية بعد أن وصلت أصداء مأساة الجوع في اليرموك إلى شاشات العالم.
وفيما يطلق عليه الناشطون (مسرحية الأيام الخمسة) سمح النظام في 18 كانون الثاني (يناير) 2014 بدخول المساعدات للمرة الأولى إلى المخيم، وذلك عبر المدخل الرئيسي الذي تسيطر عليه جماعة جبريل وفتح – الانتفاضة، ولكن عملية استلام المساعدات لم تمر بالطريقة المتوقعة، حيث استمرت عناصر النظام وشبيحته بالمماطلة في توزيع المساعدات على الأهالي المحاصرين على مدار الأيام الخمسة الأولى، فقامت بإيقافها مرات عدة، فضلاً عن افتعال الاشتباكات الوهمية والاعتقالات التعسفية للمدنيين خلال عملية الاستلام تلك، وبينما أعلن النظام عبر وسائل إعلامه عن دخول خمسة آلاف حصة غذائية، تم في الواقع توزيع 138 حصة فقط، وتواصل سقوط ضحايا الجوع لأسابيع عدة لاحقة، سُجل آخرها في 22 شباط (فبراير) 2014 وفق ما وثقته منظمة العفو الدولية في تقريرها المفصل حول مخيم اليرموك والصادر في شهر آذار (مارس) الفائت، الذي أحصت فيه سقوط (194) قتيلاً من المدنيين بسبب الجوع والحصار، ومع مرور الوقت حوّل النظام وحلفاؤه عملية استلام المساعدات إلى مهمة يومية ومخيفة بسبب القتل أو الاعتقال، ومحبطة بسبب التأجيل المتكرر أو افتعال المعارك الوهمية، ومهينة بسبب شُحها وطريقة توزيعها المُذلة.
وطوال العام الثاني تابع النظام وحلفاؤه على أبواب المخيم سياسة التجويع الممنهج، والهادفة إلى تحويل فكرة استمرار دخول المساعدات والحصول عليها رغم شحها، الهاجس الأكبر لدى الأهالي المحاصرين، عوضاً عن التركيز على المطالبة بفك الحصار عنهم، ولم يكتفِ النظام بتردي الأوضاع الصحية والإنسانية بسبب انعدام الغذاء والدواء والخدمات العامة كافة وعلى رأسها الكهرباء، فقد أضاف سلاح العطش إلى ترسانته التي يستخدمها في أحياء جنوب دمشق المحاصرة، إذ بدأ منذ أواخر شهر تموز (يوليو) 2014 بتقليص مدة تدفق المياه الصالحة للشرب لحوالى نصف ساعة فقط في الصباح الباكر، ومع تفاقم مشكلة شح المياه داخل المخيم، قام بقطعها نهائياً منذ منتصف شهر أيلول (سبتمبر) 2014 وحتى اليوم، وقد أدى ذلك إلى تلف المزروعات البديلة التي كان بعض الأهالي يعتمدون عليها في مواجهة الحصار، كما سبب اعتماد الأهالي على بعض الآبار القديمة لتكون مصدر مياه الشرب والاستعمالات الآخرى، على رغم صعوبة استخراجها، إلى تفشي بعض الأمراض والأوبئة والحمى، وتدخلت جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني بالتعاون مع الصليب الأحمر الدولي، حيث استطاعتا إدخال بعض المضادات الطبية لمحاصرة المرض والقضاء عليه، غير أن أسبابه لم تزل موجودة حتى اليوم وقابلة لمعاودة الظهور في أي لحظة.
عملية دفع الأوضاع المعيشية نحو الانهيار التام في جوانبها كافة، ومواصلة النظام مساومة وابتزاز المحاصرين بدخول المساعدات أو توقفها، كانت المطرقة التي يستخدمها في هدم بنية الصمود لديهم، كما أن قيامه بمنع دخول وخروج المدنيين إلا باستثناءات خــاصة ومحدودة، حوّل المخيم إلى سجن كبير، يرزح جميع قاطنيه من النساء والرجال والأطفال تحت رحمته، مهددين على الدوام بالموت بمختلف الطرق البشعة.
قد يرى البعض أن كل هذا، ربما لا يختلف عن أية منطقة أخرى يفرض النظام عليها حصاراً خانقاً، بيد أن ما يجعل حصار اليرموك مختلفاً، فضلاً عن موقعه الجغرافي، هو أنه مخيم للاجئين الفلسطينيين، وورقة مساومة سياسية مهمة في يد النظام. وفي سياق تحويله إلى «غيتو» حقيقي لم يكتف النظام بعزله سياسياً عن ركب المصالحات في تلك المنطقة باعتباره شأناً فلسطينياً يُعالج في شكل مستقل مع الفصائل الفلسطينية وفي ما بينها، ولا جغرافياً من حيث فصل المناطق عن بعضها، بل تعدّاها إلى الجانب الإنساني، والذي كان «المدماك» الرئيسي في بناء أسوار الـ «غيتو» في اليرموك، فتحت شعار (خير البلد… لأهل البلد) وتلبية لمطالب النظام، رفضت منطقتا (يلدا وببيلا) المجاورتان، تقديم الدعم لأهالي اليرموك بعد نجاحها في إجراء المصالحة مع النظام وتدفق المساعدات إليها منذ 17 شباط 2014، وتركتاهم يتقلبون بين نيران المبادرات الواهية والمساعدات الشحيحة ونيران تُجار الأزمات في المنطقة.
خلال عامي الحصار كان النظام وحلفاؤه من الفصائل الفلسطينية، يتشاركون تحويل المخيم إلى «غيتو» معزول عن جواره. واستهل المحاصرون عامهم الثالث بقصف جوي لوسط المخيم، كما عاود شبح الموت جوعاً بالظهور من جديد بسبب منع دخول المساعدات إليه للأسبوع السابع على التوالي، فدقت المؤسسات الإنسانية والإغاثية ناقوس الخطر المقبل، مطلقة نداءات استغاثة حذرت فيها من تجدد كارثة الموت جوعاً، ومطالبة بفتح ممر إنساني لدخول المساعدات في شكل عاجل، فضلاً عن خروج الأهالي في تظاهرة حاشدة في 18 الجاري، مطالبين بفك الحصار عن المخيم.
ومن جانب آخر، عاود عناصر النظام والقيادة العامة وفتح – الانتفاضة التلاعب بحياة الأهالي وإطلاق وعود كاذبة حول سماحهم بدخول المساعدات، وعند وصولها إلى نقطة الـــتوزيع، يبــــدأون بإطلاق النار، وهو ما حدث يومياً على مدار الأسبوع الفائت، وعلى رغم هذه الأوضاع المأسوية في «غيتو» اليرموك إلا أن الطريق لا يزال طويلاً أمام النظام لكسر إرادة سجنائه.