لطالما راجت فكرة أن (الثورات تأكل أبناءها بعد انتصارها)، فهل ينطبق هذا القول اليوم على السوريين، ولا سيما نشطاء الثورة؟
منذ لحظة التحرير وحتى يومنا هذا، تتكرر المخاوف بشأن الأوضاع التي يواجهها النشطاء، الصحفيون، والمراسلون، حيث تعرّض بعضهم للاعتداء المباشر، فيما استمرت قضايا التهميش والتخوين رغم الجهود المبذولة لمعالجتها، وبعد أربعة عشر عامًا من النضال، لاتزال هذه التساؤلات مطروحة بقوة، مما يستدعي توضيح هذه الصورة بشكل أعمق.
في ظل هذه الأوضاع، انتشر أمس الإثنين هاشتاغ #ناشطو_الثورة_بين_التضحيات_والتهميش، الذي لاقى تفاعلًا واسعًا بين النشطاء.
شارك الناشطان محمد خضير وجابر عويد منشورًا جاء فيه:
“من المؤسف أن كثيرًا من ناشطي الثورة السورية، الذين شاركوا بصدق ودفعوا أثمانًا باهظة، أصبحوا اليوم خارج الصورة.
بعد التحرير، بدأ التركيز على بعض الأسماء فحسب، فيما تم تجاهل أصوات فاعلة أخرى لم تُمنح فرصة الظهور، أو لم تبحث عن الشهرة أصلًا. الثورة قام بها الملايين، ولا يمثلها فرد أو مجموعة، والعدالة تقتضي الاعتراف بكل من ساهم فيها، لا أن نقصي ثائرًا حرًا”.
ويعلّق الناشط محمد قارح على حسابه الشخصي قائلًا: “هذا يزيد الفجوة بين الناس ويعمق الشعور بالإحباط، إن لم نتحرك اليوم، سنندم غدًا”.
أما الناشطة والصحفية سناء العلي فتتحدث بحرقة عن واقع الكفاءات فتقول: “الكفاءة باتت رهينة الواسطات والمحسوبيات والمعارف، في حين أن الجميع يعلم بما يجري لكنه يكتفي بالصمت، والمستفيد ساكت”.
ما وراء التهميش: شهادات من الميدان
يثير الواقع الحالي تساؤلات جوهرية حول مدى عدالة التعامل مع النشطاء. هل تُختزل أسماء المشاركين في الثورة ببعض الشخصيات التي يجري تكريسها؟ أم أن المسألة تحتاج إلى مزيد من الوقت لإيضاحها، بحيث يتم الاستفادة من الجميع وفق مقتضيات الإدارة والمؤسسات؟
وفي ظل استمرار التحديات، يبقى السؤال مفتوحًا حول حرية الصحافة والتعبير: ألا ينبغي تفعيل الآليات التي تحمي حقوق النشطاء والصحفيين، ليتمكنوا من أداء دورهم الفاعل في بناء الوطن؟
في هذا السياق، أبدى لنا الأستاذ أكرم الأحمد مدير المركز الصحفي السوري رأيه قائلًا: “تابعت بألم منشورات بعض زملائي حول الشعور بالتهميش، أنا مدرك تمامًا لمعاناة العديد من النشطاء الذين شاركوا بشجاعة وإخلاص في اندلاع الثورة السورية عام 2011، عندما تظاهروا وعملوا لإسقاط طاغية العصر علنًا، مطالبين بالحرية والكرامة للسوريين، لا يمكن لأي ذاكرة وطنية صادقة أن تتجاهل هذا الدور، وشعورهم اليوم بالإقصاء أو التهميش من قبل السلطات مؤلم ومحبط بكل تأكيد”.
ويضيف الأحمد: “إن المرحلة الحالية تتسم بعدم الاستقرار وإعادة التموضع السياسي والإداري، مما جعل الإنصاف الكامل أمرًا صعبًا، فالضغوط الأمنية، والافتقار إلى معلومات دقيقة عن الفاعلين، إضافة إلى تعقيد المشهد السياسي، كلها عوامل أدت إلى عدم تحقيق العدالة التي يستحقها كل من ساهم في شرارة الثورة الأولى.
إن الظلم الذي لحق ببعض النشطاء والفاعلين لا يُمكن تبريره، لكنه مفهوم في سياق بلدٍ يُكافح تداعيات ما بعد الحرب.
ومع ذلك، المطلوب اليوم هو العمل والاستمرار بالحفاظ على إرث الثورة وتوثيق تضحياتها”.
ويقترح الأحمد: “إنشاء رابطة أو جمعية مستقلة تجمع النشطاء المؤسسين، بحيث تنظم أصواتهم وتوثق أدوارهم في التغيير الذي تعيشه سوريا، بدلًا من ترك الأمور لتقديرات شخصية أو حسابات سياسية”.
أما مروة الغميان الناشطة والمعتقلة السابقة، فتشير إلى أن التعامل مع ثوار 2011 يطرح العديد من التساؤلات قائلة: “ما يبدو في الأفق ليس مجرد تباين في وجهات النظر، بل قد يعكس اختلافًا أعمق في التوجهات، فالثوار الذين لايزالون متمسكين بمبادئ الثورة يجدون صعوبة في التكيف مع النهج الإداري الحالي، الذي يتطلب مرونة في الطرح أو إعادة صياغة بعض المفاهيم الثورية لتتواءم مع السياق القائم”.
وتؤكد أن هذا مجرد اجتهاد شخصي يحتمل الصواب والخطأ، وهو نابع من تجربة ومعايشة.
هل التغييرات طبيعية؟
يرى الباحث الاجتماعي محمد الجسيم أن للمشهد دلالات غير مصرح عنها، قائلًا:
“هذه مرحلة جديدة بمحددات مختلفة وأشخاص جدد، لكن من المؤكد أن هيئة تحرير الشام لم تكن جزءًا من الثورة منذ بدايتها، بل جاءت متأخرة ولم ترفع علم الثورة إلا في السنوات الأخيرة.
كان لها دور في استهداف ناشطي الثورة والجيش الحر في إدلب، ولا تزال الاحتجاجات ضدها هناك هي الأعلى حتى اللحظة، اليوم الهيئة تتربع على رأس السلطة، فكيف نتوقع منها أن تكرس حضور نشطاء الثورة الأوائل وهي ليست جزءًا منها؟”.
هل المشكلة في طبيعة المرحلة؟
في محاولة لتقديم منظور مختلف، تواصلتُ مع الإعلامي والباحث في التراث محمود الطويل، وهو أحد النشطاء الأوائل في الثورة.
يقول الطويل: “لا أتفق مع هذا الطرح، ولا أنفيه كذلك، القضية تحتاج لدراسة معمقة، فهناك من نال فرصته وهناك من لم ينلها، وهناك من يستحق الفرصة ونالها، ومن لم يستحق ولم يحصل عليها. ليست كل التعيينات اليوم قائمة على الكفاءات بالمطلق، لأن هذا الأمر يحتاج لآلية أوضح ووقت، لكن ليس صحيحًا أيضًا أن جميع التعيينات تتم بالمحسوبيات فقط.
المشهد اليوم مختلف عن السابق، ومن الطبيعي ألّا يكون مرضيًا للجميع، هناك عوامل متداخلة تساهم في الوصول، منها المعرفة، الحضور، والخبرة العملية”.
ويضيف الطويل :”برأيي، التهميش ليس قرارًا حكوميًا، بل هو نتيجة حسابات وتجمعات شخصية. هل الجميع يمتلك عقلية الدولة؟ بالطبع لا، فالعمل اليوم قائم على التحالفات. ومع ذلك، من الضروري أن يبادر الشباب الثوري لإثبات جدارتهم والمساهمة بفاعلية، بدلًا من انتظار الفرصة أو التزكية من أحد”.
لا تزال الصورة غير واضحة تمامًا، وربما يكون من المبكر إطلاق الأحكام على هذه المرحلة، فالعمل وحده قادر على كشف الأحقية. المطلوب اليوم هو تعزيز الخبرات، تطوير المهارات، وتقديم النشطاء أنفسهم بصورة أقوى، ليكونوا شركاء حقيقيين في بناء المرحلة القادمة، والمساهمة الفعلية في تحقيق حلم الحرية والعدالة الذي انطلق مع شرارة الثورة السورية الأولى.