عماد شقور(القدس العربي)
تسيطر على الإسرائيليين هذه الايام حالة من الشعور بالمهانة والاذلال. بدأ مسلسل الأحداث الذي قاد إلى هذه النتيجة بعملية عسكرية إسرائيلية فاشلة، تمثلت في محاولة خطف وأسر ضابط كبير في قوات الذراع العسكري لحركة حماس في غزة، هو نور الدين بركة. وذكرت بعض المصادر الإسرائيلية أن بركة هو المسؤول والمشرف على «سلاح الأنفاق» هناك. وكان في تقدير إسرائيل، ان تكون هذه «العملية السرية البالغة الأهمية»، (على حد وصف بعض المحللين العسكريين في الصحف الإسرائيلية لها)، ضربة قاصمة، تجعل من الممكن إضعاف، إن لم يكن إلغاء فاعلية «سلاح الأنفاق»، حيث تتمكّن إسرائيل، في حال نجاحها في خطف وأسر بركة، من كشف خرائط ورسومات تلك الأنفاق، وكل ما له علاقة بهذا «السلاح» الذي تصرف إسرائيل مليارات الدولارات للتصدي له، من تكليف خيرة العقول فيها لابتكار وتصنيع اجهزة تكنولوجية متطورة، قادرة على كشف أي عمليات حفر على اعماق كبيرة، بالإضافة إلى مبادرتها، منذ اكثر من سنتين، لحفر واقامة «جدار فصل» في عمق الارض، على طول عشرات الكيلومترات حول قطاع غزة المنكوب، ولجعل قطاع غزة محاصرا من الجهات الست: الشرق والغرب والشمال والجنوب والسماء وتحت الارض ايضا.
أدّى انكشاف الدورية العسكرية الإسرائيلية إلى اشتباك بالنيران، قُتِل فيه قائد القوة العسكرية المتسللة، وأُصيب عدد من جنوده، واستشهد المطلوب الاول للعملية، نور الدين بركة، وستة آخرون من مقاتلي حماس، وتمت محاصرة القوة العسكرية الإسرائيلية المتسللة، واصبح من الممكن القضاء على كامل افرادها، وربما أسر بعضهم ايضا، الامر الذي دفع جيش الاحتلال والاستعمار الإسرائيلي إلى حشد وتحريك طائراته ودباباته ومدفعيته، لتشكيل حزام نيران حول دوريتها، لتأمين انسحاب جميع أفرادها، حاملين جثة قتيلهم وجرحاهم.
انتهزت حركة حماس هذه الفرصة الذهبية المؤاتية، فاطلقت قذيفة مضادة للدروع، دمّرت بها سيارة باص عسكرية إسرائيلية، (بعد ان نزل منها عشرات الجنود الإسرائيليين)، وصوّرت وبثّت شريطاً يظهر تفاصيل ذلك، فضاعفت من شعور الإسرائيليين بالخيبة والاحراج.
ادّت هذه التطورات الميدانية، إلى اندلاع موجة من القصف المتبادل، بين جيش الاحتلال والاستعمار الإسرائيلي وجميع التنظيمات العسكرية في قطاع غزة. وتميّزت هذه الجولة بأمرين: اولهما، انها كانت قصيرة للغاية، مقارنة مع جولات سابقة، إلى درجة انها ما كادت تندلع وإذ بها تخبو. وثانيهما: تميُّزها بوتيرة وكثافة عالية جدا من القصف، حيث ووجهت عمليات القصف الإسرائيلي على مواقع ومبان واهداف في القطاع، باطلاق المقاومين في القطاع لأكثر من 460 «صاروخا» وقذيفة على مستعمرات ومدن محيط غزة، خلال اقل من يوم واحد. وانتهت الجولة بالاستجابة للوساطة المصرية بوقف القصف المتبادل، رغم اعلان إسرائيل، قبل ساعات قليلة من ذلك، وقف كل حديث عن «التفاهمات» والتهدئة، وطلبها إلى مصر وقف توسطها لإنجاز ذلك، والإيحاء بتوجهها نحو جولة على غرار الجولات المدمرة الثلاث السابقة على قطاع غزة بين عامي 2008 و2014.
جولة القصف الاخيرة، من قطاع غزة وعليه، هي المسبب الآني لمشاعر الاحباط والارتباك، في المجتمع الإسرائيلي، الذي يطالب جيشه بالمبادرة إلى استئناف العدوان، ليُشعِرَ الإسرائيليين بالاطمئنان والهدوء
فور ذلك بدأت موجة التسريبات عما دار من نقاش في الاجتماع الطارئ للحكومة الإسرائيلية المصغّرة، «الكابينيت»، وتبادل الاتهامات بين المشاركين في الاجتماع الذي أقرّ الاستجابة للوساطة المصرية، وخاصة بين رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، ووزيري الدفاع، افيغدور ليبرمان، ووزير التعليم، نفتالي بينيت، حيث كل واحد منهم يتهم الآخرين بالتخاذل والتراجع في مواجهة حماس. ولحق بذلك فورا، انطلاق مظاهرات من سكان المستوطنات الإسرائيلية المحيطة بقطاع غزة، تدين قرار وقف العمليات العسكرية، في حين قابلها في القطاع مشاعر ومظاهرات فرح واعتزاز بما انتهت اليه جولة القصف الكثيفة والقصيرة.
كان واضحا ان تطور الاحداث على هذا الشكل، لن يمر بهدوء، على المستوى والصعيد السياسي الداخلي والحزبي. وفعلا، بعد اقل من 24 ساعة على ايقاف جولة العنف، اعلن ليبرمان استقالته من وزارة الدفاع، وانسحاب حزبه العنصري، «يسرائيل بيتينو»، من الإئتلاف، ولحقه تهديد بينيت بالانسحاب من الحكومة والإتلاف اذا لم توكل اليه وزارة الدفاع.
لكن ثعلب السياسة الإسرائيلية، نتنياهو، حشد كل قدراته على المكر والمناورة، وتحدث قبل ساعات فقط من اتخاذ رئيس حزب المستوطنين/المستعمرين العنصري، «البيت اليهودي»، نفتالي بينيت، لقراره الاخير باسقاط الحكومة، ما لم يستلم وزارة الدفاع، حيث عقد نتنياهو مؤتمرا صحافيا، تحدث فيه عن مخاطر امنية بالغة، وشيكة الوقوع، لا يستطيع الكشف عنها، حرصا على امن إسرائيل، وأوحى في حديثه بان اسقاط الحكومة في ظل هذه «الظروف شديدة الحساسية»، اشبه ما تكون بخيانة وطنية، ولم ينسَ ان يُذكّر كيف ان اسقاط حكومة اليمين برئاسة اسحق شامير سنة 1991، قاد إلى تشكيل حكومة اليسار، برئاسة اسحق رابين، التي ابرمت اتفاقية اوسلو «الكارثية»، من وجهة نظر نتنياهو واليمين العنصري الإسرائيلي، وكيف ان اسقاط حكومة اليمين برئاسته هو سنة 1999، أدّى إلى اندلاع الانتفاضة الدموية الثانية.
حقق نتنياهو ما اراد، حيث تراجع بينيت وحزب المستوطنين العنصري عن مطالبته بتولي وزارة الدفاع، وعادت الحكومة لمتابعة مهامها، مستندة إلى ائتلاف من 61 مقعدا من اصل 120 مقعدا في الكنيست (البرلمان الإسرائيلي)، كما كان عليه الحال قبل تولي ليبرمان وزارة الدفاع، وانضمام حزبه إلى الإئتلاف، الذي اصبح اكثر استقرارا ومكونا من 66 مقعدا.
نجح الثعلب نتنياهو. لكن ماذا عن إسرائيل.. الذئب الجريح؟ وكل حيوان مفترس يصبح اكثر شراسة وعدوانية عندما يكون جريحا، وتزداد شراسته عندما تضاف إلى ذلك مشاعر الاهانة والإذلال.
كثيرة هي الدلائل التي تشير إلى احتمال ان يكون نتنياهو كاذبا، او غير دقيق على الاقل، عندما تحدث مرحلة امنية حساسة تواجهها إسرائيل هذه الايام. لكن هذا الامر ليس قاطعا بالتأكيد. فالتحدي الروسي لإسرائيل بعد تسببها قبل اكثر من شهرين، باسقاط طائرة اليوشن روسية، ومقتل ضباط الاستخبارات الروس الخمسة عشر الذين كانوا على متنها، قاد إلى تكبيل ايدي إسرائيل العدوانية على الاراضي السورية، وتعزيز ذلك بتزويد الجيش السوري بمنظومات صواريخ إس إس 300 الروسية، تجعل إسرائيل في موقف حرج، لم تكن تواجهه من قبل. واذا اضفنا إلى ذلك ما تنشره وسائل الاعلام عن مضاعفة ترسانة صواريخ حزب الله في لبنان، ومضاعفة دقة توجيه واصابات هذه الترسانة، تتبدّى امامنا صورة مقلقة لإسرائيل، ستسعى إلى محاولة التعاطي معها باللغة الوحيدة التي تتقنها إسرائيل، وتفهمها ايضا.
على ان جولة القصف الاخيرة، من قطاع غزة وعليه، هي المسبب الآني لمشاعر الاحباط والارتباك، في المجتمع الإسرائيلي، الذي يطالب جيشه بالمبادرة إلى استئناف العدوان، ليُشعِرَ الإسرائيليين بالاطمئنان والهدوء. وليس من المفاجئ ان نقرأ مقالا للكاتب الليبرالي الإسرائيلي، روغِل إلفَر، في «هآرتس» الإسرائيلية غداة انتهاء جولة القصف الاخيرة، تحت عنوان «شعب كامل (ومُغفّل) يطالب بالحرب» ويقول فيه: «الإسرائيليون هم شعب مُغفّل. إذ حسب استطلاعات الرأي، فان غالبيتهم العظمى غير راضية عن الطريقة التي يعالج نتنياهو بها التصعيد في غزة، أي انهم يريدون شن الحرب. ورغم ان «الرصاص المصبوب» و«عامود الدخان» و«الجرف الصامد» لم تحرز الا هدوءاً مؤقتا فقط، كان ثمنه مقتل عشرات الجنود الشباب، فانهم يطالبون بحرب اخرى مثل هذه».
من تجربتنا نتعلم: عندما اهينت إسرائيل في صيف عام 1981، في مواجهات عسكرية عنيفة بين جيشها وقوات الثورة الفلسطينية، اضطرت، ولاول مرة، لطلب وقف اطلاق النار، وكان ذلك ليلة 23 تموز/يوليو 1981، بعد ان طال قصف قوات الثورة الفلسطينية مدينة نهاريا. وكان واضحا يومها انها ستحاول الانتقام لهذه الإهانة. بعد اقل من عام، وفي يوم 3 حزيران/يونيو 1982، بدأت حملتها التي اجتاحت بها جنوب لبنان وحاصرت العاصمة بيروت.. وكل ما عدا ذلك اصبح تاريخا، انتهى بإذلال اكبر لإسرائيل وجيشها، متمثلا بانسحابها المهين من جنوب لبنان في صيف العام 2000.
هل نقف هذه الايام على عتبة عدوان إسرائيلي جديد؟ يبدو ان الجواب الصحيح هو: نعم. وان لم يكن على مستوى حرب اقليمية، فعلى مستوى انتقام جديد من قطاع غزة واهله.
نقلاً عن :القدس العربي