ثمة سر وراء ذهاب الدول إلى فيينا، يرتبط باستحالة بدء عملية السلام في سورية، انطلاقا من تشكيل “الهيئة الحاكمة الانتقالية”، كاملة الصلاحيات التنفيذية والتشريعية والقضائية، بتراضي الطرفين، كما تقول وثيقة جنيف وقرار مجلس الأمن رقم 2118 الذي حدد آلية تنفيذها.
المشكلة أن الروس تخلوا عن جنيف، والنظام يرفض رفضا مطلقاً هدفه، نقل سورية إلى الديمقراطية الذي سينجز بتعاون أطراف منه مع المعارضة لتشكيل “الهيئة الحاكمة الانتقالية”، التي ستنجز الحل، وأنه تمسك ببشار الأسد، أو أجبر على التمسك به بمعونة روسية / إيرانية، حتى بعد الهزائم التي نزلت بجيشه، وزلزلت نظامه، وأوشكت أن تسقطه، علما أن رحيله يعتبر شرطاً لا بد منه للتراضي بين أهل الثورة وأهل النظام أولاً، ولقيام “الهيئة الحاكمة” ثانياً، وللانتقال الديمقراطي الموعود في نهاية الأمر. لم يحدُث التراضي المطلوب، وبقي بشار مؤيداً من أجهزته، فلم تؤسس “الهيئة” التي يعتبر تشكيلها بداية الحل الذي بدا، وما زال يبدو، مستحيلاً.
لا مبالغة في القول إن كل ما يفعله الأميركان يندرج في إطار الالتفاف على هذه الاستحالة، وكل ما يفعله الروس والإيرانيون يقتصر على تثبيتها وترسيخها. لم تتخلَّ عصابات الجيش والأمن الأسدية عن بشار، فلعب الأميركيون، وبعض الأوروبيين، بفكرة إبقائه رئيساً خلال مرحلة انتقالية، تتراوح بين ستة أشهر وعام ونصف العام، تشكل خلالها “الهيئة” في صورة “حكومة وحدة وطنية” (مقترح روسي) تكون بقيادته وليس ضده، كما يقول قرار تفسيري صدر عن مجلس الأمن، يقول إن صلاحيات الهيئة التنفيذية تعني صلاحيات رئيسي الجمهورية والوزراء اللذين ستنتفي الحاجة لهما حتى خلال مرحلة الانتقال.
وبدورها، تمثل لجان دي ميستورا محاولة أخرى للالتفاف على معضلة “الهيئة الحاكمة” التي أدرجها في بند خاص من البنود التي ستتحاور اللجنة القانونية والسياسية حولها، وتخلى بذلك عن تشكيلها باعتبارها بداية الحل. وقد رفض “الائتلاف” مقترحه لهذا السبب، وطالبه بفصل “الهيئة” عن سواها من بنود “الحوار”، وتكريس لجنة خاصة لها، ما دامت مهام بقية اللجان ستحل بقرارات ستصدر عنها، لا تحتاج إلى تفاوض أو حوار.
هذا الالتفاف محكوم بالبحث عن أداة غير “الهيئة”، تكون مدخلا إلى جنيف معدل هنا وهناك، انتهى، أخيراً، إلى مقترح لا ينتمي نهائياً إلى وثيقته، يتحدث عن “جسم حكم وحوكمة”، خالطاً بين الاثنين، ومتجاهلا الفارق بين الحوكمة أسلوباً في الإدارة و”الهيئة الحاكمة”، أو الجسم الحاكم، كياناً سياسياً/ مؤسسياً، وظيفته نقل سورية إلى الديمقراطية، وليس الحوكمة التي أرجح أن أحداً لن يمارسها قبل الانتقال، لافتقار سورية الحالية إلى جميع متطلبات ممارستها من بيروقراطية رشيدة إلى قضاء مستقل وصحافة حرة إلى رقابة برلمانية لمؤسسات الدولة. في المقابل، يتمسك الروس بتصورهم للحل، الخارج بنسبة ألف بالمائة عن جنيف، والذي يقتصر على تشكيل بشار الأسد، بصفته رئيس سورية المنتخب، وبالتالي الشرعي، حكومة وحدة وطنية، وبضم “جيش الدفاع الوطني” إلى جيش السلطة، قبل ضم الجيش الحر إليهما، وإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية برقابة دولية.
يحق طبعاً لبشار ترشيح نفسه فيها، بعد انتهاء ولايته الحالية، أي بعد خمسة أعوام، كما يقال مرة، أو بعد تشكيله الحكومة وهيكلته الجيش، كما يقال مرة أخرى. ينبني المشروع الروسي بكامله على التمسك باستمرار النظام وبشار، بينما مشروع جنيف الذي وافقت روسيا عليه نهاية يونيو/حزيران 2012، قائم من ألفه إلى يائه، على فكرة الانتقال الديمقراطي، وبالتالي، على رحيل بشار وتغيير النظام.
في هذه الأثناء، يقوم الروس بجهد عسكري كبير جداً، هدفه شطب الجيش الحر و”الائتلاف” من معادلات الحل، تحقيقاً لهدف بشار القديم: الوصول إلى وضع يكون بديله فيه “داعش” و”النصرة” ولا أحد سواهما، يخير العالم بينه وبينهما، فيختاره هو. هذا ما يعمل عليه الروس، فإن سمح “أصدقاء الشعب السوري” لهم بإنجاحه عسكرياً، تعاظمت فرص حلهم السياسي، الذي سيتم عندئذ بين النظام و”معارضتهم” التي يعملون، منذ ستة أشهر، لفبركتها.
العربي الجديد