هناك نقاش مستمر في الإدارة الأمريكية لتحديد ما إذا كانت العراق وسوريا تتجهان بالفعل إلى تقسيم شامل لا مفر منه. يتشبث بعض المسؤولين باحتمالات الحفاظ على وحدة العراق في حين يصفون الوضع السوري بأنّه “غير محدد” حتى الآن. ومع ذلك، يبدو أنّ الحقائق على أرض الواقع تسير في اتجاه لا يدعم هذا الرأي.
الحقائق الجديدة، وربما الحدود الجديدة، هي قيد الإنشاء الآن، ولا أحد يستطيع التكهن بأي شيء في هذه النقطة؛ لأنّ الأمور تتغيّر بسرعة كبيرة. ومع ذلك، من الممكن الكشف عن عملية الاختمار وتحديد قواتها الناشئة والطريقة التي تعمل وتتفاعل بها في مختلف مراحل العملية. فيما عدا إبرام صفقة إقليمية كبرى، فإنّ الحقيقة الوحيدة الأكثر وضوحًا اليوم هي أن هذه القوى في معظمها تجاوزت مرحلة المصالحة وبات من غير المحتمل التوصل إلى صفقة إقليمية شاملة.
عندما تكون هناك فجوة بين القدرة الداخلية لمجتمع معين وهدف التوصل إلى عقد اجتماعي مقبول للحفاظ على وحدته، يمكن للاعبين الخارجيين التدخل للمساعدة في ملء هذه الفجوة. في هذه الحالة، توسّع القوى الخارجية الفجوة بدلًا من سدها. ولكن هناك دلائل تشير إلى أن الأطراف المعنية أدركت أن الوضع في سوريا، على سبيل المثال، يجب أن ينتهي بشكل سياسي، وهناك بعض الجهود المستمرة بصمت الآن تهدف إلى الوصول إلى نهاية مناسبة في سوريا.
ولكنّ القاعدة العامة لم تتغيّر؛ فالمجتمعات المتحاربة من سكّان العراق وسورية ستظل موجودة دائمًا، والعوامل التي قد تساعد على اجتثاث جذور الطائفية في البلدين تزداد ضعفًا؛ ولذا فالسيناريو الأكثر احتمالًا في حال فشل الجهود للتوصل إلى المرحلة النهائية، هو استمرار الانقسام الحالي لفترة طويلة قادمة. الانشقاقات الاجتماعية في البلدين سوف تعمّق وتوسّع ثقافاتهم الموازية التي يجري تشكيلها الآن.
ولكن، هناك شيء غريب في هذه العملية: إنّها مليئة بالمفاجآت. كان جون كيرى خلال لقاء مع بشار الأسد في دمشق منذ ما يقرب من خمس سنوات، ولم يكن أحد يفكر حينها في تقسيم سوريا ولم يكن تنظيم داعش موجودًا بالأساس. يبدو أن الوقت يمر بسرعة كبيرة في الشرق الأوسط. جميع الفواتير السرية المتأخرة ظهرت في لحظة واحدة وطرقت أبواب المنطقة التي يبدو أنها قد نسيتها منذ فترة طويلة.
ولكن، هل هو أمر حتمي أن تنتهي هذه العملية بتقسيم سوريا والعراق؟
في سوريا، تشكّل القوات الكردية في الشمال مسار الأحداث التي قد تؤدي إلى استقلال كردستان. تقف تركيا في حيرة من أمرها، لا تعرف ما ينبغي القيام به أكثر مما حدث بالفعل. لقد أعربت عن أملها في حدوث تغييرات واعدة على الجانب الآخر من الحدود لتجد بعد أربع سنوات أن أسوأ كوابيسها يظهر هناك ببطء. وبما أنّ أنقرة لا يمكنها العودة بالزمن إلى الوراء، فربما تتسرع في اتخاذ خطوات خاطئة.
لكنّ القوات الكردية عُرضة للخطر بطرق أخرى أيضًا؛ فالأكراد لا يستطيعون تطوير حملتهم دون تحالفات قوية مع بعض القوى العربية السُنية. إنّهم بحاجة إلى رؤية نهج مختلف من تركيا في شمال سوريا فهم لديهم منظور ضيق عن دورهم المحتمل على أساس تفسير محدود لهدفهم وكيفية تحقيقه.
الأكراد بحاجة إلى بناء جسور قوية مع العرب السُنة في الشمال من أجل عزل خصومهم، داعش والأسد. كما يجب أن تتجنب القوات الكردية أي أعمال انتقامية ضد السكّان الأصليين. ومن غير الحكمة رفض دخول المفتشين الدوليين في مدينة تل أبيض بعد الاستيلاء عليها. إذا ارتكبت بعض الجرائم هناك، ينبغي الكشف عنها بشفافية ومحاسبة الجناة، ولا بد من وضع معايير مختلفة في هذه الحرب، ليست معايير أخلاقية فحسب؛ بل سياسية أيضًا. وتلعب مثل هذه الممارسات دورًا هامًا في التعايش المستقبلي في شمال سوريا.
وينبغي تجنب الاندفاع نحو مدينة الرقة دون تحالف أوسع مع القوى العربية السُنية المعتدلة، ومن الصعب وجود مثل هذه القوات في الشمال الآن. ولكن هناك دلائل تشير إلى ظهور هذه القوات ببطء بين الشقوق في تلك المنطقة التي يحتكرها المتطرفون، ويجب على الأكراد المساعدة في توفير الظروف المواتية لنمو هذه القوات المعتدلة إن أمكن ذلك. تقاتل بعض وحدات الجيش السوري الحر مع الأكراد، ولا تزال القوات الكردية بحاجة إلى الأسلحة والذخيرة؛ ومن ثم هناك حاجة إلى المزيد من الطرق الإبداعية لتزويدهم بالمعدات اللازمة.
على الجانب الآخر من الوضع في شمال سوريا، قد تشكّل التطورات المستقبلية الديناميكيات الشاملة حيث أصبح من الواضح الآن أن تنظيم داعش يستعد لمعركة حلب. تتجمع القوات المتنقلة لتنظيم داعش على طول الحدود الفاصلة بين المعارضة الإسلامية والتنظيم؛ ولذلك سيكون الاستيلاء على المدينة القديمة بمثابة نقطة تحول في الوضع في هذه المنطقة، إن لم يكن في سوريا بأكملها.
لا يزال شمال سوريا هو البقعة الأكثر تعقيدًا وصعوبة في مجرى الأحداث في كل من سوريا والعراق. وبشكل عام، فإنّ الهزيمة شبه المؤكدة لداعش في المستقبل لن تُحدث تغييرًا جذريًا في هذا الواقع المعقد. لا ينبغي التقليل من قدر داعش والنظر إليه باعتباره مجرد ظاهرة عسكرية؛ بل إنّها ظاهرة سياسية وثقافية وجيوسياسية. وعلى هذا النحو، لن تكون هزيمة التنظيم مصطلحًا عسكريًا فحسب.
وحتى الآن، تقدّمت الخطوة لتوحيد الإسلاميين في شمال وجنوب سوريا بشكل ملحوظ منذ بداية عام 2015. ومع ذلك، هذه المرحلة الجديدة من تطور المعارضة تحمل مشاكلها الخاصة. هناك، على سبيل المثال، جبهة النصرة التي لا يمكن التخلص منها في الوقت الحاضر، والتي من المحتمل أن تتحول إلى مشكلة إقليمية حقيقية، أكبر من الأسد، في المستقبل.
إنشاء فرع لجيش الفتح في جنوب سوريا هو تعقيد آخر للأوضاع؛ حيث يخلق قوة جذب أخرى في منطقة يتمتع فيها الجيش السوري الحر بدور قيادي. من الواضح أنّه ينبغي تزويد قوات الجيش السوري الحر بعدد كبير من المعدات العسكرية في جنوب سوريا لتعزيز تماسك هذه القوة المعتدلة نسبيًا وتمكينها من الحفاظ على دورها الرائد؛ لأنّه ستكون هناك حاجة ماسة له في المستقبل.
تشير الصورة العامة في سوريا إلى أن البلاد المنقسمة بالفعل لديها قوى مختلفة تكافح للسيطرة على المناطق الاستراتيجية إلى أقصى حد ممكن. في حين لا ينبغي السماح للجنوب بالانزلاق إلى حالة مماثلة لكوريا الشمالية، فإنّ السيناريو المحتمل هو دمج القطع الصغيرة من الفسيفساء في القطع الكبيرة. وفي ظل عدم وجود اتفاق سياسي شامل توقّع عليه جميع الأطراف المعنية، فإنّ هذه القوات المتناثرة في الشمال والجنوب ستظل تسيطر على أراضيها بغض النظر عن أي قرار يتخذه الأسد. وفي الآونة الأخيرة، دخلت موسكو في مداولات مكثفة ومتعددة الأطراف، خلف الكواليس، في محاولة لإنهاء الأزمة السورية. هذا الجهد الجديد مهم للغاية؛ لأنه يشمل جميع الأطراف المعنية دون استثناء، ومع ذلك، لا تزال نتائجه غير مؤكدة إلى حد كبير.
إذا لم يتم التوصل إلى حل سياسي سريع، فإنّ الأسد، الذي تحول إلى قائد ميليشيا، سوف يسيطر على جزء من سوريا، بينما في بقية أنحاء البلاد ستستمر مجموعة من القوى الأخرى في قتال مع بعضها البعض ومع القوات المتبقية الموالية للأسد في الغرب، ولن نرى سوريا موحدة مرة أخرى.
في العراق، تُعدّ سيطرة قوات التعبئة الشعبية على المراكز الحضرية في وسط العراق التطور الأكثر خطورة في الآونة الأخيرة؛ فهذه القوى لن تترك بسهولة ما استولت عليه بالقوة. وهناك توقعات باندلاع حرب أهلية طويلة الأمد أسرع من ذي قبل، وهذا سوف يساعد في بقاء وانتشار تنظيم داعش في العراق. كما أنّ هزيمة القوات الموالية لإيران في سوريا سيؤدي بالتأكيد إلى شحذ إرادة طهران للسيطرة على وسط العراق.
احتمالات الحفاظ على وحدة العراق آخذة في التناقص بسرعة كبيرة. وبقدر ما يمكننا فهمه من بيانات مسؤولي البنتاغون، فمن الواضح أن واشنطن تحاول تغطية خسارتها، لا سيما في العراق. ومن المعروف أن في وسط وغرب العراق هناك حاجة إلى قوات البيشمركة السُنية لهزيمة داعش، وإذا رفضت بغداد، سيتوجب على عمّان القيام بذلك؛ فهي تهيئ نفسها بالأساس.
تفكر الأردن في مساعدة القبائل العربية في سوريا والعراق، وتمتد هذه القبائل عبر الصحراء بين الأردن وسوريا والعراق. هذا المشروع هو تعبير عن فقدان الأمل في الحفاظ على وحدة سوريا والعراق. لكنّ الأردن تنفي بشكل قاطع أي نوايا لتزويد القبائل بالأسلحة. وقال عضو في البرلمان الأردني إنّه لن يتم تقديم أي مساعدة أردنية للقبائل العراقية، سيتم ذلك “فقط من خلال بغداد“.
كما حذر المدير العام السابق لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، الجنرال ديفيد بترايوس، من خطر الميليشيات الشيعية، ودعا إلى تسليح عشائر الأنبار. كان رد الميليشيات من خلال مهاجمة الجنرال حتى على المستوى الشخصي وذكّرت العراقيين بأن بترايوس “ليس مسؤولًا أمريكيًا“. ومع ذلك، لم تقدم آراء بترايوس الإجابة عن سؤال حول كيفية تسليح القبائل، لكنّ القوات الشيعية الموالية لإيران في بغداد لديها إجابة واحدة، وهي: يجب على العشائر السُنية الانضمام إلى ميليشيات التعبئة الشعبية الشيعية المضادة للسُنة حتى يتم تسليحها.
ومع ذلك، توضح التصريحات التي نُسبت إلى وزير الدفاع آشتون كارتر أنّ إمكانية تقسيم العراق تدور في أذهان المسؤولين في واشنطن. ماذا لو أصبح من الممكن تقسيم العراق إلى عدة طوائف؟ وقال كارتر لأحد أعضاء الكونغرس: “هذا جزء هام من استراتيجيتنا على أرض الواقع الآن. إذا لم تستطع الحكومة أن تفعل ما يفترض أن تقوم به، فنحن سنظل نحاول تمكين القوات البرية المحلية، إذا كانوا على استعداد للدخول في شراكة معنا، للحفاظ على الاستقرار في العراق، ولكن لن تكون هناك دولة عراقية موحدة“.
لا يبدو أنّ الحكومة في العراق قادرة على القيام بما يفترض أن تفعله؛ فالضغوط السياسية والعسكرية للقوى المتطرفة تمنع رئيس الوزراء حيدر العبادي من القيام بما يتطلبه الأمر للحفاظ على وحدة العراق.
لكن، لا يزال هناك وقت متاح قبل أن يصل العراق إلى خط اللاعودة، ولكن الوقت يمر سريعًا في منطقة الشرق الأوسط، أسرع من أي مكان آخر في العالم. وستبقى سوريا منقسمة لفترة طويلة قادمة، ليس لأنّ العالم يريد ذلك؛ ولكن لأن الحقائق على أرض الواقع تقول ذلك.
هل سيكون هذا سببًا كافيًا لأن تقبل لأطراف المعنية حلًا وسطًا مناسبًا للجميع؟
ميدل إيست بريفينج – التقرير