لم يتوجب على السوريين اللاجئين في #لبنان الاهتمام بأمور معيشتهم واستمرارهم على قيد الحياة فقط، بل إن سنة الحياة ألزمتهم أن يهتموا أيضاً بمستلزمات موتهم أيضاً، فالموت لم يمهلهم حتى العودة إلى ديارهم لتضم أرض وطنهم جثامينهم، وزاد على همومهم عبء توفير الاحتياجات الملازمة لحدث الموت وعلى رأسها تأمين مكان لدفن موتاهم.
ما يقارب السنوات الأربع في لما يفوق المليون لاجئ سوري في لبنان، شهدت أعداداً لا يستهان بها من الوفيات الطبيعية، كما جراء الإصابات ذات المنشأ المتعلق بالاشتباكات المسلحة وعمليات القصف في #سوريا ، وفي الحالات الاعتيادية يبادر أهل المتوفى إلى محاولة نقله إلى مسقط رأسه في سوريا، إن لم يحل دون ذلك مانع أمني، كأن تكون منطقتهم متوترة أمنياً ومسرحاً لعمليات عسكرية، أو أن يكون المتوفى أو أحد أقربائه مطلوبين لأجهزة النظام السوري الأمنية، وفي حال توفر إمكانية نقل الجثمان إلى سوريا، تبرز مشكلة الكلفة المالية المرتفعة للاحتفاظ بجثة المتوفى في براد مخصص لدى إحدى المستشفيات لأيام ريثما تجهز الأوراق الرسمية اللازمة لعملية النقل وعبور الحدود، إذ إن العائق الفعلي لنقل الجثة هو البدل المالي المترتب على هذا الخيار، “المضحك المبكي” على حد تعبير روان العاملة في إحدى الجمعيات التي تهتم باللاجئين السوريين، فما شهدته من حالة نقل جثمان لاجئ سوري توفي في لبنان “رتّب خلالها على ذوي المتوفى دفع مبلغ 200 دولار أميركي إلى الأمن العام اللبناني عند المعبر الحدودي بدل غرامة لمخالفة المرحوم لشروط الإقامة وتجاوزه المدة المسموح بها”.
في الحالات الأخرى التي يقرر بها المعنيون لأسباب متعددة دفن فقيدهم في لبنان، تبرز مجدداً مشكلة الكلفة المادية، فكلفة المعيشة المرتفعة في لبنان عموماً وبالنسبة للسوريين خصوصاً تنسحب أيضاً على هذا الشأن، وأيضاً تظهر أزمة عدم توفر المقابر والمدافن كمشكلة مزمنة في لبنان تطال حتى اللبنانيين أنفسهم، وهنا يمكن للعلاقات الشخصية والوساطات أن تجدي نفعاً شرط توفر المال اللازم.
تتراوح كلفة تأمين مدفن بين مئات وصولاً إلى آلاف الدولارات، متضمنةً أجور حفر القبر، مع وجود حالات محدودة نسبياً لمدافن مجانية، كما أن لحالات التكافل الاجتماعي والإنساني للبنانيين مع اللاجئين السوريين أثر في ذلك، ويقول سامح المؤذن السوري اللاجئ في لبنان إنه نصح بعد وفاة ابنه الرضيع أن يجرب البحث عن مدفن له بعيداً عن #بيروت حيث يقيم، وحيث ترتفع البدلات المالية للدفن، وعلم بوجود تسهيلات حينها (قبل سنتين من الآن)، حيث استطاع دفن فقيده في #طرابلس بكلفة رمزية بمعونة جمعية خيرية إسلامية لبنانية.
أما في البقاع فيتكلم حسين الشافي السوري المقيم في أحد المخيمات العشوائية التي تضم لاجئين سوريين عن أن همَّ الطبابة ودخول المستشفيات في لبنان حيث الفاتورة الطبية شديدة الارتفاع، يتبعه في الحالات التي تصل إلى الموت همٌّ أكبر هو هم تأمين المدفن اللازم للمتوفى، ويروي كيف أنه بعد دفن ابنة جاره في المخيم التي صدمتها سيارة عابرة على الطريق القريب، جاء أفراد عائلة من القرية المجاورة التي دفنت الطفلة في مقبرتها، مهددين بنبش القبر وإخراج الجثة، مبررين ذلك بأن القبر حيث دفنت هو ملك لعائلتهم التي تخصص أفرادها بتلك المساحة منذ أجيال، وكاد التهديد يتحول حقيقة لولا تدخل شيخ القرية ومختارها، ويشير الشافي إلى أن الأمر مرّ على خير حينها قبل أكثر من سنة، لكنه لا يرجح أن تجري الأمور كذلك الآن في حالة مماثلة، فالمجتمع المحلي برأيه لم يعد متضامناً مع #اللاجئين_السوريينكما الماضي.
الدفن سراً
حالات ليست بالنادرة، خاصة في تجمعات السوريين في مخيمات #البقاع ، كان الحل الأنسب لها في ظل الظروف الصعبة السائدة أن تدفن سراً في أراض عامة أو مشاع، ليست مخصصة للدفن ولا هي تضم تجمعاً للقبور، ويأسف الشافي الذي شهد وساعد في حالات مماثلة للحال التي وصل إليها السوريون، حيث باتوا مجبرين على تخطي البعد العاطفي والمعنوي والتخلي عن عادة زيارة قبر فقيدهم كما اعتادوا، لاضطرارهم إلى دفنه في أرض مشاع نائية.
الموت الذي لا يفرق بين الأديان والطوائف يطال سوريين من الديانة المسيحية ممن يقيمون في لبنان لاجئين، وفي #كسروان يشرح أحد الكهنة اللبنانيين الذي رفض الكشف عن هويته عن أن إمكانية دفن المسيحيين متوفرة في المقابر المخصصة دون النظر إلى جنسيتهم عادة، شرط توفر مدفن شاغر وأداء البدلات المادية المحددة، وهناك نوعان من المدافن عموماً، أغلبها تشترى لتصبح ملكاً لذوي المرحوم، أو تؤجر سنة بعد سنة، ويعلّق أن السوريين يفضلون تلك المستأجرة على أمل أن يقوموا بنقل رفات فقيدهم إلى مسقط رأسه في سورية يوماً ما. من جهته يشير جورج وهو سوري مقيم في لبنان بعد أن انتقل إليه عقب خسارته منزله في #حمص ، إلى أن البدلات المادية المطلوبة لدفن المسيحيين في #لبنان باهظة وغير منطقية، فاستملاك مدفن يكلف من 2000 إلى 3000 دولار أميركي في أحسن الأحوال، أما استئجاره فيكلف أكثر من 200 دولار أميركي سنوياً، ويضاف إلى هذه الكلفة كلفة الجنازة والتابوت التي متوسطها 1000 دولار آخر.
أما في منطقة #الشوف حيث تتركز تجمعات لطائفة الموحدين الدروز فيجد جثمان الدرزي السوري أرضاً تضمه، خاصة أن عائلات درزية سورية كثيرة لها أقاربها من العائلة نفسها في لبنان، وهذا ما يسهّل أمر تدبر المدفن بحسب قيس ابن #السويداء ، ويبقى أمر دفن الدرزي السوري الذي لا قريب له في لبنان ممكناً لكن ليس بالسهولة نفسها.
لم تنفع جهود منظمات إغاثية ودولية لمست حقيقة هذه المشكلة في توفير بديل واضح ومتاح لكل السوريين في لبنان حتى الآن، وإن كانت قد أثمرت جهودها بالتعاون مع دوائر الأوقاف في حالات فردية، ويبقى السوري في لبنان حائراً متعباً من معاملات الإقامة في لبنان إلى كلفة المعيشة المترفعة، وصعوبة الاستطباب وصولاً إلى فقدان المثوى الأخير بعد خسارة الوطن.
رامز أنطاكي ـ الحل السوري