لا شك أن إسقاط الطائرة الحربية الروسية ( سوخوي 24) من قبل السلطات التركية في الرابع والعشرين من نوفمبر الجاري يشكل متغيراً إضافياً هاماً للمتغيرات المتسارعة التي تعصف بالأزمة السورية وبالمنطقة بشكل عام، ومن شأنه أن يترتب عليه تداعيات خطيرة على كافة الجوانب السياسية والعسكرية والاقتصادية وسيؤثر بشكل أو بآخر على العلاقات الثنائية بين تركيا وروسيا، وهو ما أكده المسؤولون الروس بأن موسكو ستتخذ إجراءات حاسمة رداً على اسقاط طائرتهم التي اخترقت الأجواء التركية رغم تحذيرها لعدة مرات دون إكتراث من طاقهما، وما سبقه من تحذيرات تركية بخطورة انتهاك الطائرات الروسية المتكرر للأجواء التركية واستدعاء السفير الروسي في أنقرة أكثر من مرة لتحذيره من تداعيات هذه الانتهاكات، إضافة إلى تأكيد المسؤولون الأتراك على أنهم سيطبقون قواعد الاشتباك ضد أي طائرة تنتهك أجوائهم وسيادة بلادهم .
المتابع للتطورات المتسارعة التي أعقبت إسقاط الطائرة الروسية يدرك حجم الأزمة وتداعياتها المستقبلية على الصراع في المنطقة وعلى العلاقات الثنائية بين البلدين، فقد أعلنت موسكو فور إعلان إسقاط الطائرة عن تعليق كافة الاتصالات العسكرية مع تركيا، واتهام أنقرة بدعم الإرهاب بشكل علني وبلهجة حادة جداً ، وألغاء زيارة رسمية لوزير خارجيتها ” سيرغي لافروف ” إلى اسطنبول كانت مقررة في اليوم التالي لاسقاط الطائرة حيث كان من المفترض أن يترأس ” لافروف ” اجتماع مجموعة التخطيط الاستراتيجي المشتركة بين البلدين، ومناقشة عدد من القضايا الدولية والإقليمية وعلى رأسها ملف مكافحة الإرهاب والأزمة السورية ، إلى جانب العديد من القضايا الاقتصادية المشتركة بين البلدين خاصة مشروع أنابيب ” السيل التركي” لنقل الغاز الروسي إلى أوروبا عبر تركيا. ومن التداعيات الأخرى للحادثة تعليق روسيا السياحة إلى تركيا وتعليق استيراد العديد من المنتوجات الزراعية واللحوم البيضاء، في حين أكدت على أن اسقاط الطائرة لن يؤثر على اتفاقيات ضخ الغاز الروسي إلى تركيا.
على الجانب الآخر يدرك المتابع أن الموقف الروسي حرج جداً خاصة من الناحية القانونية والسياسية خاصة مع إبداء المجتمع الدولي تضامنه مع التصرف التركي حيال الطائرة الروسية، ولم يقتصر الأمر على التضامن فقط ، بل أكد حلف الناتو – التي تعتبر تركيا عضواً بارزاً فيه – على أحقية التصرف التركي وإن دعا إلى الحوار وضبط النفس لاحتواء الأزمة وعدم الانجرار نحو التصعيد العسكري ، كما أكد الرئيس الأمريكي “باراك أوباما ” على حق تركيا في الدفاع عن حدودها وسيادة أجوائها الوطنية .
على مدى السنوات الماضية استطاعت السلطات التركية أن تتعامل بحكمة متناهية مع الاستفزازات التي تعرضت لها من قبل النظام السوري لجرها إلى المعركة والتزمت بقواعد الاشتباك المتعارف عليها دولياً في التعامل مع اختراقات الطائرات السورية لأجوائها الوطنية ، وأعلنت تركيا عقب اسقاط طائرتها من قبل قوات النظام السوري عام 2012 (وما تردد من معلومات حينها عن دعم قدمته القوات الروسية المرابطة في البحر الأبيض المتوسط لقوات النظام السوري ساهم في إسقاط الطائرة التركية) تعديل قواعد الاشتباك المذكورة، وأكدت أكثر من مرة على أنها ستطبق القواعد المعدلة باستهداف أي طائرة تخترق أجوائها بعد تحذيرها ثلاث مرات متتالية في حال عدم الاستجابة الفورية لهذه التحذيرات.
إلى جانب الدعم الدبلوماسي الكبير الذي قدمه المجتمع الدولي للحكومة التركية فيما قامت به يأتي الدعم الذي يوفره القانون الدولي ليزيد من قوة الموقف التركي ويضعف حجة الحكومة الروسية فقد أكدت قواعد القانون الدولي على سيادة الدول المطلقة على أجوائها الوطنية ومنع اختراقها من قبل أي طرف دون أن يكون هناك تنسيق مسبق .
وهو ما ذهبت إليه المادة الأولى من اتفاقية شيكاغو لعام 1944 المتعلقة بتنظيم الطيران المدني حيث نصت على أنه ( لكل دولة السيادة الكاملة والمطلقة على الفضاء الجوي الذي يعلو إقليمها) ، كما أكدت المادة الثالثة من هذه الاتفاقية على أنه ( لا يجوز لأي طائرة من طائرات الدولة ” الطائرات المستخدمة في خدمات عسكرية أو جمركية أو في خدمات الشرطة ” التابعة لدولة متعاقدة أن تطير فوق إقليم دولة أخرى أو أن تهبط فيه إلا إذا كانت قد حصلت على ترخيص بذلك من خلال اتفاق خاص أو غيره وطبقاً لشروط ذلك الترخيص ) .
ويعني مبدأ السيادة المطلقة للدولة على إقليمها الجوي أن للدولة وحدها الحق في تحديد الوضع القانوني لاستخدام إقليمها الجوي مع مراعاة المبادئ والقواعد المنصوص عليها في المعاهدات الدولية والقانون الدولي ، وقد ورد هذا المبدأ في الكثير من الاتفاقيات الدولية والتشريعات الوطنية .
كما نصت اتفاقية باريس لعام 1919 على هذا المبدأ في مادتها الأولى عندما نصت على أنه ( لكل دولة كامل السيادة على المنطقة الجوية التي تعلو إقليمها ) وينصرف معنى الإقليم هنا إلى الإقليم الأساسي للدولة ( اليابسة ) ومياهها الإقليمية التي تجاورها في حال كانت الدولة ساحلية أو متشاطئة.
ووفقاً لهذا المبدأ تستطيع الدولة المعنية أن تحدد ممرات الطائرات وفي حالات الضرورة تحدد الدولة مناطق يمنع التحليق فوقها ( المناطق الأثرية ) التي قد تتأثر بهذا التحليق، كما يمكنها من تحديد قواعد الاتصالات اللاسلكية ويمنحها حرية مراقبة أجوائها باستعمال الوسائل اللازمة لتحقيق هذه المراقبة بما فيها إجبار الطائرات على الهبوط والمطاردة . وهناك العديد من السوابق الدولية في هذا المجال حيث شهد العالم خلال السنوات الماضية اسقاط طائرات مدنية وعسكرية اخترقت أجواء دول أخرى دون التنسيق معها . ففي عام 1961 كانت طائرة امريكية من طراز (U 2 ) تحلق على ارتفاع شاهق وتقوم بجولة استطلاعية فوق أراضي الاتحاد السوفييتي – آنذاك – عندما تم اسقاطها بالقرب من مقاطعة ” سفيردلوفسك ” في إقليم الأورال الروسي واعتقال قائدها ، حينها تم تبرير العمل السوفييتي بناء على أحكام اتفاقيتي باريس وشيكاغو ومبدأ سيادة الدولة على إقليمها الجوي . وهنا لا بد أن نميز بين الطائرات المدنية التي يدين القانون الدولي اسقاطها في حال اختراقها المجال الجوي لدولة أخرى لاعتبارات إنسانية تتعلق بسلامة الركاب وبين الطائرات الحربية التي تقوم بمهام عسكرية حيث يتعين عليها الالتزام المطلق باحكام القانون الدولي واحترام سيادة الدول تحت طائلة استهدافها دون أن يترتب على ذلك مسؤولية دولية بشرط اتباع قواعد الاشتباك المتعارف عليها دولياً والتي تتعلق بإنذار الطائرة المخترقة للأجواء ثلاث مرات متتالية وفي حال عدم الاستجابة يمكن لطائرات الدولة المعنية أن تطارد هذه الطائرة وتبعدها عن أجوائها أو استهدافها عسكرياً .
إلى جانب ذلك يرى الكثير من فقهاء القانون الدولي أن سيادة الدولة على إقليمها الجوي مطلقة حيث تمتد هذه السيادة إلى طبقات الهواء التي تعلو إقليمها، وهم يرون أن الدولة تستطيع بواسطة طائراتها وصواريخها ومدافعها حيث تستطيع أن تمنع الطيران فوق إقليمها وبذلك لا يكون للدولة حد معين على أجوائها بل سيادتها مطلقة بلا حدود مهما علا ارتفاع الطائرات المحلقة على إقليمها .
كما جرى العرف الدولي على أن تكون لكل دولة السيادة المطلقة الكاملة على المنطقة الهوائية التي تعلو أقاليمها الثلاث البرية والبحرية والجوية وبالتالي لا يجوز للطائرات الأجنبية المرور فوق الدولة أو هبوطها على أراضيها بدون الحصول على إذن أو ترخيص مسبق بذلك .
مما سبق يمكن القول إنه في حال اخترقت إحدى الطائرات الأجنبية الأجواء الوطنية لدولة ما وتم اسقاطها بمضاداتها الجوية أو بطائراتها ( كما حصل مع الطائرة الروسية سو 24 ) فلا يمكن للدولة مالكة الطائرة أن تحتج على استخدام القوة من قبل الدولة التي خُرقت أجوائها، مع الأخذ بعين الاعتبار عدم اسقاط الطائرات المدنية وذلك حفاظاً على الأرواح البشرية ، أما الطائرات الحربية فيجوز استخدام القوة لاسقاطها إذا خرقت الأجواء الوطنية لدولة ثانية ويكون ذلك بعد إثبات اختراق الطائرة بشكل لا لبس فيه لمجالها الجوي وهو ما ينطبق على حادثة اسقاط السوخوي 24 الروسية .
د. وسام الدين العكلة
استاذ القانون الدولي والعلاقات الدولية