لم تبالغ روسيا في وصف نتائج “اللقاء التشاوري السوري”، إذ كانت في وقت سابق قد مهّدت لمؤتمر “موسكو 2” باعتباره “إطلاقاً لمسار سياسي يعوّض فشل مباحثات جنيف”، قبل نكوصها المفاجئ وقبولها بطاولة “دردشة بمن حضر”.
منذ العام 2014، والدول المعنية بالأزمة السورية تعيد ترتيب أوراقها. وقد حاربت روسيا بضراوة على الجبهة الأوكرانية، ولانت قليلاً في الشرق الأوسط، ممررة ثلاثة قرارات متتالية في مجلس الأمن تحت الفصل السابع، هي في ظاهرها إعلان للحرب الدولية على الإرهاب، وفي باطنها مباركة لتشكيل تحالف دولي بقيادة الولايات المتحدة.
وقد عُقدت لقاءات روسية – تركية حيناً، وأخرى روسية – سعودية. وتزامن ذلك مع تكثيف اللقاءات الأميركية – الإيرانية، والتفاؤل الذي أُشيع حول قرب إنجاز اتفاق نووي، من دون الحاجة إلى تمديد إضافي للمفاوضات. وتصدرت إيران واجهة الأحداث في سوريا ولبنان واليمن والعراق في آن واحد، فبات يربطها بالولايات المتحدة اتفاق شبه ناجز، وبروسيا ملف نووي ينتظر الاستكمال، وبسوريا علاقة سيطرة لا لبس فيها، وباليمن انقلاب سافر، وبلبنان فراغ سياسي مستمر. بالمقابل، حاولت السعودية، وما زالت، صوغ تحالفات جديدة لاستعادة قدر من التوازن المفقود في المنطقة.
يتساءل البعض عن سبب إحراج موسكو نفسها بعقدها جلسات الحوار، إذا كانت مستاءة من الخصوم وغير راضية عن الحلفاء. كذلك يتساءل متابعون عن أسباب بذل الجهود من أجل إنتاج سلعة رديئة، لم تكن غير قابلة للبيع فحسب، بل إن موسكو نفسها انكفأت عن تسويقها.
مفهوم أن روسيا تركت التحالفات العسكرية المكلفة لخصومها، وألزمتها، ظروفها الصعبة، على خلفية العقوبات والأزمة الأوكرانية، بالعمل في مسار سياسي خاص، تهدف لتسويقه حين ينضج. على أن ذلك يستوجب قليلاً من الضغط على النظام السوري كي يكون أكثر قابلية للانفتاح على حلول، وللمشاركة في جلسات حوار وإبداء مزيد من التعاون مع المبعوث الخاص للأمم المتحدة، ربما تحت طائلة تخفيف الدعم الروسي عنه. فالضغوط على موسكو تتراكم، وهي لا تريد دعم النظام السوري في حرب لا تنتهي، فيما النظام السوري لم يُبْدِ استعداده لفتح ملفات سياسية جدية راهناً، بل طلب من الروس شراء مزيد من الوقت: فليكن لقاء موسكو تشاورياً، ولنؤجل سائر التفاصيل إلى جولة لاحقة.
غير أن أوساطاً من اللقاء تبدي استياءً روسياً من مراوحة النظام السوري مكانه لناحية الانفتاح على حلول سياسية، فيما التواصل الديبلوماسي السوري – الروسي يبدو أضعف مما كان عليه في السابق. ولعل موسكو تنتظر إنجاز الاتفاق النووي الأميركي – الإيراني قبل الإقدام على خطوة أخرى، ما يعني أن محادثات موسكو الثانية لن تعقد في القريب العاجل كما أشيع. فروسيا غير مستعدة اليوم لتحمل تكاليف “لقاء تشاوري” فارغ آخر، يضعف من أسهمها أكثر مما أضعفه اللقاء الأول، ويظهرها بمظهر من لا يستطيع إقناع حليفه بخطوة سياسية جدية. وأغلب الظن أن روسيا تبحث عن مفاوضات تتسم بقدر مقبول من الفعالية لتلميع صورتها، ويبدو أن المهمة لتحصيل هذا المبلغ صعبة جداً، إلى حد أن الولايات المتحدة، كما بدا، ساعدت على نزع بعض العصي من عجلات مساعيها.
برغم ذلك، تُشتم رائحة ضغط أميركي ساعد على إنجاز اتفاق المعارضة الأخير في القاهرة، وعلى إعلان رئيس “الائتلاف” أنه مستعد لتأجيل البحث في مصير الرئيس السوري. تلك خطوات ومواقف، يفترض نظرياً، أن تمهد لما يتجاوز “اللقاء التشاوري”.
نائل حريري- السفير