روسيا تطمح إلى الحد من الضرر الذي لحق بصورتها في العالم. فخلال الأعوام الثلاثة الماضية برزت موسكو كقوة عدوانية غير قابلة للانضباط وتسعى لانتزاع ما تريده بالقوة العارية.
في وقت بدا وكأن روسيا قد انتصرت في سوريا وفرضت على المعارضة السياسية والعسكرية الانصياع لرؤيتها من خلال جمعها في العاصمة الكازاخية أستانة من دون شروط، ظهر عجزها مع حلفائها في مدينة دير الزور حيث شن تنظيم داعش هجومه الأعنف منذ أكثر من عام.
تحولت روسيا فجأة من طرف يزهو بمحاربة التنظيم الإرهابي بصورة منفردة كما تدعي، إلى طرف يستنجد بالمجتمع الدولي ويحذر من “مجزرة بشرية” في المدينة التي بدت وكأنها توشك على السقوط. قبل ذلك انتزع داعش مناطق في حمص بل أوشك على انتزاع تدمر مجددا.
يُظهر ذلك حجم تعقيدات الأزمة السورية، والدرجة العالية لانعدام الاستقرار وهو ما يولد باستمرار فرصا للمناورة يستغلها جميع الأطراف، وقد شكل ذلك طيلة ست سنوات، أحد أهم عوامل إدامة الصراع.
كما يعيد تمدد تنظيم داعش في مناطق سيطرة النظام تسليط الضوء مجددا على حقيقة أن المنظمات الإرهابية في سوريا، وإخوتها الجهادية أيضا، ليست ظاهرة عابرة يمكن شطبها بسهولة حتى مع تدخل أكبر دولتين على المستوى العسكري، روسيا وأميركا. قد يجادل البعض بأن روسيا لم تضع محاربة تنظيم داعش على رأس أولوياتها، إذ ركزت جهودها على قتال المعارضة السورية المعتدلة.
ولكن ذلك يؤكد أن طبيعة الصراع السوري ولا مركزيته العالية تجعلان من العسير، حتى بالنسبة إلى الدول العظمى، رسم خطة عسكرية ما وتحقيقها خلال فترة زمنية محددة. حددت روسيا لتدخلها العسكري في سوريا فترة ثلاثة أشهر، وإذا بها تمدد وجودها الذي صار له اليوم نحو عام ونصف العام.
يؤكد ذلك أهمية مؤتمر أستانة بالنسبة إلى روسيا. لا تتأتى أهميته فقط من إدخال لاعبين جدد إلى الحلقة الروسية لإدارة الصراع بما يخفض من نفوذ إيران في سوريا، ولكن أيضا في رغبة بوتين بتجنب خطر الاستنزاف في سوريا.
تعلم موسكو أن حربها على القاعدة وداعش والتنظيمات الجهادية سوف تضطرها للزج بالمزيد من القوات العسكرية والمعدات في وقت يعاني اقتصادها تحت وطأة العقوبات وتدهور أسعار النفط. في حال اضطرت إلى ذلك، ما من شك في أنها قادرة على تعبئة المزيد من الموارد العسكرية، غير أنه يبقى من الحكمة اختبار مسارات أخرى تجنبها دفع تكاليف باهظة تسرع من استنزافها الاقتصادي.
هكذا، فإن أحد أهداف مؤتمر أستانة هو منع تحول التدخل الروسي إلى استنزاف بوضع ترتيبات عسكرية وتحالفات جديدة تحدد أهدافا يمكن تحقيقها في فترة محددة.
تدرك روسيا أهمية تحقيق تقدم على الصعيد السياسي ولكنها لا تملك مقومات حدوثه، إذ تشاركها إيران والنظام السوري القرار في هذا الصدد. لكنها تدرك أن المنظمات الإرهابية في سوريا ليست مجرد منظمات إرهابية فحسب، ولكنها باتت بسبب عدم وجود بدائل، حركات سياسية تضم مقاتلين وجمهور من المناصرين يمكنه تعويض الاستنزاف لفترة طويلة، كما حدث خلال الأعوام الماضية.
وهنالك ضرورة لانتزاع “القضية” من هذه المنظمات لكي تتسنى هزيمتها أو إضعافها. وتتطلع روسيا لأن يكون ذلك بتوسيع مشاركة بقية التنظيمات السورية في حل لا يرتكز على العدالة، وإنما على الاستقرار وعلى مشاركة محدودة، ولكنها ستختبر قدرتها على فعل ذلك في ضوء المعارضة الإيرانية.
ربما تطمح روسيا أيضا إلى الحد من الضرر الذي لحق بصورتها في العالم. فخلال الأعوام الثلاثة الماضية، برزت موسكو كقوة عدوانية غير قابلة للانضباط تسعى لانتزاع ما تريده بالقوة العارية.
بدت قوة عظمى وكأنها احتلت موقع الولايات المتحدة في هذا الإطار: ارتكاب جرائم حرب دون مساءلة، غزو وضم أراضي دولة مجاورة (أوكرانيا) تحت أنظار العالم، اختراقات إلكترونية متعددة تؤثر على السياسات الداخلية للدول الغربية بما فيها الانتخابات الرئاسية الأميركية.
قبل نحو شهر، تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارا يعتبر شبه جزيرة القرم أرضا محتلة، فيما يعتبر روسيا قوة احتلال في أوكرانيا. ولذا، من الممكن أن يفكر بوتين، مع بداية العام الجديد، بحصاد ثمار سياساته العدوانية والتحول نحو سياسية متوازنة تهتم بصورة روسيا كقوة عظمى لكن مسؤولة ومنفتحة على التعاون.
يضاف كل ذلك إلى الآلام الاقتصادية المتفاقمة في البلاد والتي تحرض على التفكير في إعادة الحسابات. بحسب بيانات البنك الدولي، كانت نسبة من يعيشون تحت خط الفقر في روسيا عام 2014 نحو 11 بالمئة وارتفعت في العام 2015 إلى نحو 13.5 بالمئة، فيما لا تزال أسعار النفط متدنية. وسيكون من شأن الإصرار على سياسة المواجهة زيادة التكلفة الاقتصادية والاجتماعية، وصولا إلى يوم تصبح فيه تلك التكلفة كبيرة للغاية ولا يمكن التعايش معها كما حصل مع إيران التي استسلمت ووقعت الاتفاق النووي.
لا يرغب بوتين في أن يصل إلى ذلك اليوم، بل يريد قطف الثمار وتوقيع الاتفاقيات في وقت لا تزال فيه روسيا قوة باطشة، تحتفظ بأوراق أكثر من كافية لإملاء شروطها.
العرب سلام السعدي