بينما كانت دمشق تحتفل بالذكرى الثالثة لجلاء الفرنسيين عن كامل أراضيها، شهدت الحياة السياسية السورية أول تدخل عسكري في شؤونها، بإعلان قائد الجيش السوري آنذاك، حسني الزعيم، تطويق القصر الرئاسي من قبل ضباطه، بالإضافة إلى مجلس النواب والوزارات الحيوية بالدولة، في آذار 1949.
كان ذلك الانقلاب العسكري الأول في سوريا، الذي نتج عنه اعتقال رئيس الجمهورية المنتخب، شكري القوتلي، ورئيس وزرائه خالد العظم، وإعلان حكومة حسني الزعيم مفتتحًا باب الانقلابات في السياسة السورية، “لتهيئة حكم ديمقراطي صحيح، بدلًا عن الحكم الحالي المزيف” بحسب ما أعلنه “البيان رقم واحد” خلال انقلاب حكومة الزعيم.
دوافع الانقلاب.. اتفاقية “التابلاين”
دعا حسني الزعيم الشعب السوري إلى انتخابه رئيسًا للجمهورية في حزيران من نفس عام الانقلاب، لكن قبل ذلك بشهر، وتحديدًا في 16 من أيار، أقرت حكومته، بتشريع عسكري، اتفاقية “التابلاين” (TAPLINE) لنقل النفط عبر أنابيب تمر في الأراضي السورية إلى البحر المتوسط.
اعترفت الولايات المتحدة الأمريكية في ذلك الوقت بانقلاب حسني الزعيم، الذي كان ثاني انقلاب عسكري في المنطقة بعد العراق، تمهيدًا للموافقة على اتفاقية “التابلاين”، التي رفض المجلس النيابي السوري بنودها، لمّا “فاحت روائح الرشوة والعمالة” منها.
كان مشروع خط “التابلاين” أكبر خط أنابيب من نوعه في العالم، إذ امتد بين ساحل الخليج العربي وساحل البحر الأبيض المتوسط، بطول بلغ 1664 كيلو مترًا، واستغرق إنجاز المشروع أقل من ثلاث سنوات، ليكون معبرًا لنقل النفط من السعودية إلى أوروبا والولايات المتحدة الأميركية.
ولاحقًا أصبح خط “التابلاين” ينقل ما يصل إلى 30% من إنتاج المملكة من الزيت الخام إلى الناقلات، التي حملته بدورها، إلى أسواق النفط في أوروبا والساحل الشرقي للولايات المتحدة.
ويعود سبب رفض البرلمان السوري هذا المشروع، إلى أن النفط العربي سيصل إلى دول أجنبية تدعم قيام دولة إسرائيل في فلسطين، الأمر الذي رفضه رئيس الوزراء، حينها، خالد العظم، أيضًا، لأن شروطها لم تكن منصفة للدولة السورية، وأعطت صلاحيات واسعة لشركات الاستثمار الأميركية.
وقال رجل الأعمال والسياسة الأميركي، مايلز كوبلاند، في كتابه “لاعب اللعبة” إن “الانقلاب كله من تدبير حسني الزعيم من البداية حتى النهاية”، وأن عمل الولايات المتحدة ما كان سوى “إسداء النصيحة للزعيم فيما يتعلق بالتخطيط، ووعده باعتراف الولايات المتحدة بحكومته الجديدة”.
موافقة القوتلي ورفض البرلمان
وقدم الملك عبد العزيز آل سعود مسألة “التابلاين” إلى الرئيس القوتلي قبل الانقلاب وتم التوقيع على المشروع، وفق كتاب “العلاقات السورية- الأمريكية“، لأستاذ التاريخ في جامعة “كركوك”، فهد سليمان السبعاوي، لكن لم يجرؤ القوتلي، حينها، على تقديمه إلى المجلس النيابي السوري، وعندما شكل خالد العظم حكومته في 16 من كانون الأول 1948، ركزت على حل المسائل الاقتصادية وأهمها مشروع “التابلاين”.
وعندما قُدم المشروع إلى المجلس النيابي في 16 من شباط لعام 1949، قوبل بالمعارضة الشديدة، حتى إن “المظاهرات الشعبية خرجت تندد بالمشروع”، وفق الكتاب.
وطلب أعضاء البرلمان تأجيل مناقشة المشروع بعد إصرار الرئيس القوتلي عليه، معتبرًا أن ذلك يقع في مصلحة سوريا لفتح باب التعاون السياسي والاقتصادي مع أمريكا.
وبعد 11 يومًا من الانقلاب، استقبل حسني الزعيم ممثلين أمريكيين للتفاوض بشأن “التابلاين” معهم، وأعلن في 17 من نيسان، باعتباره صاحب السلطة التشريعية والتنفيذية، عن نيته في إبرام الاتفاق الموقع بين الحكومة السورية وشركة “التابلاين” الأمريكية، رغم أن وزير الأشغال والمواصلات السوري حينها، فتح الله صقال، قد قدم تقريرًا أشار فيه إلى أن المشروع يمثل انتقاصًا للسيادة الوطنية السورية، إلا أن الزعيم أكد أن المشروع في مصلحة سوريا.
لسوريا 50%
خط الأنابيب الذي مر بالأراضي السورية قامت من أجله منشآت ضرورية خاصة لهذا الغرض، وعند إتمام الاتفاق بين شركة خط الأنابيب المسجلة في ولاية دولاوير الأمريكية والحكومة السورية، حددت المنافع التي تنالها الحكومة من الشركة مقابل الامتياز.
وبناء على طلب الشركة لصب أنابيب النفط مبتدئًا من منطقة الظهران في السعودية منتهيًا إلى مرفأ الشاطئ اللبناني، كان للحكومة السورية حصة 50% من صافي المبالغ الناتجة عن استثمار الأراضي السورية لمشروع “التابلاين”، وذلك من أجل مد الخطوط وبناء المصفاة وصهاريج النفط، وفقًا لاتفاقية “عائدات التابلاين” بين الحكومة السورية واللبنانية.
وتم إيقاف الضخ عبر أنابيب مشروع “التابلاين” إلى صيدا بجنوب لبنان مع الاحتلال الاسرائيلي لهضبة الجولان الذي يمر بها الخط، وذلك في عام 1967.
وخط “التابلاين” خارج الخدمة اليوم، وحل محله خط أنابيب الزيت الخام “شرق- غرب” وغيره من خطوط الأنابيب، فيما تقوم الناقلات الضخمة المملوكة لشركة “فيلا” البحرية العالمية المحدودة التابعة لـ”أرامكو” السعودية بنقل الزيت السعودي إلى الأسواق العالمية.
عنب بلدي