سأل فتى عربي أباه: بابا، أنا عمري الآن سبعة عشرة عاماً، ومنذ طفولتي أسمع أننا نحن “العرب جرب”، وأنه مكتوب على جبين كل منا ذلك. وسمعت من معلمي في مادة التاريخ قولاً أحاله إلى شاعر إنجليزي اسمه “كيبلنج”، فيه أن الشرق شرق والغرب غرب ولا يلتقيان.. فهل في هذا وذاك ما عليّ أنا وأصدقائي أن نأخذ به؟
إن ذلك الفتى أثار مسألة تحيل إلى ما أصبح استراتيجية يشتغل عليها معظم مفكري الاستشراق الغربيين، وما قد رسخ في عقول كثير من المثقفين الغربيين، إضافة إلى ما قد رسخ في مرجعيات عربية كثيرة، ثقافية وسياسية وعسكرية وغيرها، أما الفصيل الأكبر في مصداقية ذلك فقد أفصح عن نفسه في سياق الجامعات ومراكز البحوث الغربية، إضافة إلى مجموعات من شعوب الغرب نفسه، وإضافة إلى مجموعات أخرى ليست قليلة من شعوب أوروبا والولايات المتحدة الأميركية وغيرها. أما القشة التي قصمت ظهر البعير، فأفصحت عن نفسها في عودة الاستعمار الغربي إلى معظم البلدان العربية بعد خروجه منها: لقد عاد عبر النظم الأمنية التي راحت تتصدر هذه البلدان بعد حصولها على الاستقلال من المستعمر الغربي إياه، الذي راح يؤسس لتلك النظم جزئياً أو كلياً في الاقتصادات والجيوش الوطنية الجديدة والمؤسسات المجتمعية والثقافية.. ولكن بشكل خاص في الحقول السياسية الحاكمة.
أما ما راح يسيطر على معظم البلدان المستقلة حديثاً، فتمثل في ما قام به الدخلاء السابقون (الاستعماريون)، بتعاون وثيق مع مجموعات من أهل تلك البلدان، وهذا بدوره راح يفصح عن نفسه عبر قانون جديد لضبط تخلف البلدان المعنية، إذ راح يحوله من تخلف تاريخي إلى “تخليف مصنع” من الخارج بأيدي الداخل، ومن ثم نشأت ظروف لتأسيس عالم جديد هو “العالم الثالث”، بمداخله المتمثلة في دعم الانقلابات العسكرية، التي مثلت رحم نظم سياسية أفضت إلى “دول أمنية”.
في ذلك كله، كانت فلسطين تئن تحت ضغوط مفتوحة على أيدي مجموعات من الصهاينة يعلنون أن فلسطين حق لليهود! واللافت أن الصهيونية عممت إعلانها ذاك على العالم العربي نفسه، بكثير من الدهاء وعبر خطاب زائف حول “الأحقية التاريخية” و”الجدارة الحضارية”.
ولن نقول إن ظفر الصهيونية بمعظم فلسطين جاء بسبب تفريط الفلسطينيين، وإنما نقول إن ذلك حدث نتيجة لتحالف الغرب الاستعماري من أجل الاحتفاظ بها للصهاينة، وله كذلك، بمثابة نافذة مباشرة على العالم العربي، ومن ثم منصة باتجاه الفعل المزدوج بين المنطقتين.
أما الجديد، فيتمثل في الخطر الذي يحمل في قلبه احتمالات تفكيك العالم العربي جراء أزمة الحرب الدائرة في سوريا. ففي هذا البلد، تتبلور إرهاصات لتفجير العالم، والأدهى من ذلك أن الموقف في سوريا حالياً يُفتح للأغراب من كل مكان، وعلى أيدي سوريين فقدوا الذاكرة التاريخية التي تخبرهم بأن سوريا جميعاً عصية على التفكيك والتقزيم أرضاً وشعباً. وهكذا انتقلت الكرة من سوريا إلى اليمن ثم إلى بلدان عربية أخرى.. لكن هذا مناقض للتاريخ العربي برمته، وهو يذكرنا بالحكمة التاريخية الذهبية القائلة: لا يصح إلا الصحيح، وعلى الجميع في الداخل والخارج أن يدركوا خطورة اللحظة المعيشة، فليس عبثاً أن السوريين يعودون إلى ذاكرتهم ليضعوا العالم كله أمام واحد من مقدساتهم.. عودوا إلى الأم الرؤوم، وإن لم تعودوا، فسوف يحدث ما هو أمر وأدهى.
الاتحاد