بضع حبات زيتون وكأس من الشاي الساخن، فطور ريفي أعدته أم خالد لولدها، قبل أن يقبل يديها الناعمتين، ويقرر الذهاب، فاضت عينيها بالدمع حين ارتدى ملابسه وحمل بندقيته أفلت يد أمه ببطء أملاً بالعودة لرؤيتها من جديد، خيم الهدوء على المكان، لبضع لحظات، ثم فجرته كلمات الأم التي دقت عنان السماء، “الله يحميك الله ينصرك ترجع بالسلامة” كانت أخر الكلمات التي سمعها خالد ومضى.
“خالد” أحد المقاتلين في صفوف الثورة نداه واجبه ليرضي أباه يقول: “وصلني النداء من قائد مجموعتي بعد التخطيط لاقتحام إحدى القرى في ريف حماه الشمالي، في العام الماضي ودعت والدتي والتحقت مع رفاقي”.
ريف حماه يشهد معارك عنيفة منذ أكثر من شهر، بعد التدخل الروسي في سوريا في 9/30 من هذا العام، ليبدأ النظام بالتقدم بعد القصف الروسي، ما اضطر كتائب الثوار إلى مواجهتهم وإعلان بدء معركة حماه لتحرير المناطق التي احتلتها الميليشيات الشيعية وغيرها من الداعمة للنظام، التي باتت تقصف من تلك المناطق على المناطق المحررة في ريف حماه وإدلب، ما أدى لوقوع مئات الشهداء والجرحى، بالإضافة إلى تدمير المنازل وتهجير أهلها.
يتابع خالد ويروي للمركز الصحفي السوري سبب التحاقه بالثورة فيقول: “اعتقلتني قوات الأمن من جامعتي في حمص في 2013/3/9 لمدة تجاوزت العام، وبعدها تم الإفراج عني، لأصل إلى بيتي في قرية معرة حرمة في ريف إدلب الجنوبي، لأفاجئ في خبر حزين تمنيت الموت أو أنا أبقى معتقل قبل سماعه، ارتقى أبي شهيداً، بعد أن ألقت مروحيات النظام برميل متفجر على منزلنا، حزنت كثيراً وبكيت بألم على قبر والدي، وعندها قررت أن ألتحق بالمقاتلين ضد النظام وأحمل السلاح الذي لم يتوارد لفكري يوماً أنني سأحمله لأقتل به إنساناً ولكن سأنتقم من قتلة والدي”.
البراميل المتفجرة، أخطر سلاح عرفه السوريون، يسبب دمار هائل ويحوي على كل ما يمكن أن يتخيله العقل من خردوات وقطع حديد تصبح على شكل شظايا حادة يزن البرميل الواحد بين 250-700 كغ، ومنه أكبر من ذلك فقد استهدفت مدينة معرة النعمان في ريف إدلب الجنوبي بحاوية أدت لدمار عشرات المنازل.
يتابع خالد بقوله: “بعد دخولنا إلى القرية، ومنّ الله علينا بتحريرها بالكامل، في الشهر الثامن من العام الماضي، وحين عمليات التمشيط، لم أدري ماذا حصل، وأخر شيء تذكرته أني أمضي ومن ثم قذفت في الهواء، حينها شعرت أني فقدت شيئاً من جسدي، وغبت عن الوعي”.
يتابع “أحمد” أحد رفاق خالد ومن كان معه: “صرخت بقوة خالد مصاب بعد انفجار لغم أرضي به، تناثرت دمائه الطاهرة على حبات التراب، ومن ثم على بندقيته، لتنشر رائحة النصر والتضحية، لم يكن هناك إلا أصوات القصف التي تزامنت مع أصوات التكبير من أصدقائي، وصلت الإسعاف ونقلنا خالد إلى أحد المشافي الميدانية ليتم علاجه”.
المشافي الميدانية تعالج مختلف الإصابات، الناتجة عن القصف والمعارك، ما جعلها هدف أول لطائرات النظام وصواريخه، يذكر أن أكثر من 5 مشافي ميدانية أعلنت خروجها عن الخدمة جزئياً وكلياً جراء القصف في ريف إدلب الشهر الماضي، بعد أن كانت الأمل في شفاء ألاف الجرحى المتواردين عليها يومياً.
استيقظ خالد بعد علاجه ليكمل قصته الطريفة: “منذ أن فتحت عيناي نظرت إلى قدمي التي لم أعد أستطيع رؤيتها وأنا ملقى على سرير العناية، وأصوات الأجهزة الطبية في أذني، وأصوات الجرحى والأطباء يخيم على المكان، رأيت والدتي والدموع تملأ عيناها السوداوين وابتسامتها تزين وجهها البشوش، محاولة أن تخفف علي، علمت أن ساقي قد قطعت حزنت للحظات ثم سيطر التفاؤل علي والفرح، لأن الله أختار لي قدري ويجب أن أرضى به”.
كانت قد وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان 148 ألف حالة بتر نتيجة الإصابة بقصف القوات الحكومية (الجوي والمدفعي)، كانت معظمها في حلب وريف دمشق وإدلب ودرعا، بحسب هدى العلي الباحثة في الشبكة، مشيرة إلى أن الإحصائية تشمل الأعداد حتى منتصف تموز من هذا العام.
لم تثني إعاقة خالد عن إكمال حياته فتابع حياته بأمل منقطع النظير يكمل: “بدأت بحفظ القرآن الكريم بالذهاب إلى حلقات الحفظ في المساجد في قريتي، وبعد مواظبة وإرادة مني أكرمني الله بحفظه”.
يقول أحد الشيوخ الذين تابعوا خالد في حفظ القرآن: “كان خالد متفائل جداً رغم إعاقته وبعد المسجد عن منزله، فلم يغب ولا أي يوم، وكان مهتم جداً بالحفظ وإتقانه، بالإضافة إلى حضوره عدة حلقات أخرى لتعلم العقيدة”.
لم يكتف خالد بحفظ القرآن كاملاً وتكريمه على ذلك من قبل معلميه يكمل: “قمت بتدريس أكثر من 30 شاباً وطفلاً، وتحفيظهم القرآن، لم أدع ظلم النظام وحقده على السوريين أن يجعل مني إنسان فاشل فقد مررت بمحن كثيرة وتجاوزتها بأملي بالفرج القريب والنصر، وأقول إلى كل شخص عاقبته الحياة كحالتي أو أي محنة مرة بها، لا تيأس فإرادتك أقوى بكثير من إرادة الظالم، فعليك أن تسير في طريقك وتفيد أبناء بلدك وتجعل التاريخ يشهد لك في صفحاته الكثيرة، بعد كل تلك المعاناة والمحن سنجعل من الألم أملاً يشع في سماء الحياة.
المركز_الصحفي_السوري
إبراهيم الإسماعيل