قد يتغرب المرء في وطنه، يبحث عن ذاته فيه فلا يجدها، يخسر فيه الشعور بالأمان، بدل أن يكون حصنه الذي يحميه، ومأواه الذي يكفيه.
زاهد شاب ثلاثيني من أبناء حلب، أقام في الريف الغربي لحلب مع عائلته، بعد خروجه من مدينته تحت وطأة اشتداد القصف عام 2015، ليضطر مرةً أخرى بعد عدة سنوات للنزوح، بسبب تقدم قوات النظام وسقوط قرى الريف الغربي.
خرج من منزله في بلدة أورم، ليجد نفسه في الشارع بلا مأوى ولا مصير ينذر بالأمان، فقرر إرسال زوجته وأولاده إلى بيت جدهم في حلب ريثما يرتب أموره من جديد، ويقوم بتأمين منزل وعمل.
بعد عدة شهور استطاع زاهد تأمين خيمةٍ إسمنتية في أحد المخيمات المنتشرة على الحدود السورية التركية، رغم قساوة الوضع المعيشي إلا أنه قرر إحضار زوجته وأولاده. وهو يحلم بلحظة احتضان أطفاله واجتماعه بعائلته من جديد.
إلا أن ظروفاً أمنيةً طرأت على الأوضاع العسكرية بين النظام والمعارضة أدت لإغلاق المعابر بين الطرفين. لتبقى عائلة زاهد حبيسةً في مناطق النظام.
انتظر زاهد شهوراً في خيمته وحيداً يحلم بأمل يجمعه بعائلته. والأيام تمضي كوقع السياط على عاتقيه ولا جديد يبشر بالفرج. حتى سمع زاهد برحلات تهريبٍ تجري بين مناطق النظام والحر مروراً بمناطق قسد.
لم يجرؤ في بادئ الأمر على ولوج تلك المغامرة الخطرة، فزوجته وحيدةً مع أطفال صغار لن تتمكن من خوض تلك الرحلة الوعرة والمخيفة في آن واحد.
ظل زاهد يكابر والشهور تمضي وأطفاله يكبرون بعيدين عنه، وقلبه يتمزق شوقاً لهم وخوفاً عليهم من بطش الأمن في حلب، إلى أن قرر بعد إصرار زوجته أن يجلبهم عبر طرق التهريب.
بعد التواصل مع عدة مهربين، حُدد موعد انطلاق الرحلة. ودّعت الزوجة أهلها وانطلقت في سيارة المهرب، بقيت على تواصل مع زوجها طوال الرحلة تطمئنه عنها وعن أطفالهم، حتى دخلت مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية وانقطع الاتصال بهم.
ساعات مرّت ولا يعلم زاهد مصير عائلته، تجمدت عروقه من الاضطراب والخوف على مصيرهم المجهول. تُرى ماذا حلّ بهم! هل كُشف أمرهم؟ هل تم اعتقالهم!
ظلّ زاهد على هذا الحال، والتساؤلات تأكل رأسه والخوف يعتصر قلبه حتى هاتفه المهرب ليخبره أن عائلته محتجزة عند قوات قسد.
جنّ جنونه. ماذا حصل حتى يقوموا باعتقال امرأة مع أطفالها! رغم كل محاولات التواصل والتوسط، لم يستطع زاهد معرفة شيء عن مصير عائلته المجهول سوى أنهم معتقلون في أحد سجون قسد.
بقي زاهد على هذا الحال عدة أسابيع، حبيس خيمته الصغيرة الحزن واليأس يأكلان جسده النحيل. ساءت حالته الصحية والنفسية، بسبب امتناعه عن الطعام والشراب، ليتدخل جيرانه ويساعدونه حتى تجاوز تلك الصدمة المؤلمة.
عاد زاهد إلى عمله ينتظر بارقة أمل تنذر بفرج قريب.
بعد أسبوعين رنّ هاتفه وإذا بصوت زوجته تخبره بخروجهم من السجن وهم باتجاه معبر الحر، سارع زاهد لاستقبال عائلته والفرحة تغمر قلبه المتعب.
بعد ساعاتٍ وصلت زوجته وأطفاله احتضنهم قبلهم حمل أطفاله ورقص بهم في الشارع، وهو يصرخ بأعلى صوته شاكرا ربه على عودتهم سالمين.
هكذا نحن في أوطاننا.. تمسكنا به كتمسك الشجرة بجذورها، وحلمنا بأن نثمر في أحضان أرضنا الطيبة، رفضنا الاغتراب خوفاً من الغربة التي حرقت قلوب البعيدين والأقربين، فضربت لنا الغربة موعداً على أرض الوطن، هربنا منها فلاحقتنا في عقر دارنا، ليصبح تنقلنا بين أرجائها يحتاج جواز سفر، بل أكثر، يحتاج قنوات تهريب.
قصة خبرية/ إيمان هاشم
المركز الصحفي السوري
عين على الواقع