انتظر محمد الحاج عند تقاطع الطرق ظهور “الرجل الأخضر” بصبرٍ. يبدو الأمر سخيفاً: إذ لا سيارات قادمة، ولا شرطيون يراقبون. في سوريا، لم يكُن ليتردَّد.
ولكن هنا في ألمانيا، هذا هو القانون، لا تعبر الطريق سوى عندما تكون إشارة المُشاة خضراء.
قال محمد البالغ من العمر 27 عاماً “لا أريد أن أعتاد عدم انتظار الإشارة، علينا جميعاً احترام العادات والتقاليد الألمانية”.
هذا عالمٌ يعيش فيه محمد، عالمٌ تحكمه القوانين، عالمٌ يقول إنَّه يعرف فيه حقوقه ومسؤولياته. إنَّه عالم حيث يستطيع أن يكون طموحاً ويخطِّط للمستقبل، حتى عندما يحاول التفاوض على مكانه في بلدٍ وصل إليه منذ عامٍ وسط مئات الآلاف من اللاجئين الهاربين إلى غرب أوروبا.
وقال “شعرتُ منذ اليوم الأول أنَّ هذا بلد قانون ونظام”.
في عالم ثان
ولكن في الوقت نفسه، يعيش محمد في عالمٍ ثانٍ: جحيم سوريا. أول ما يفعله في الصباح هو تفحُّص آخر أخبار التيار المستمر من المجازر والأخبار الحزينة على الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي. فهو غارقٌ في فوضاها، حيث كل لحظة قد تعني الموت، وحيث تتفرَّق العائلات ويكافح الجميع من أجل الحصول على أكثر الاحتياجات أساسيةً.
لا يمكنه التوقُّف عن متابعة تدمير مدينته الأم، حلب، يوماً تلو الآخر، مع حصار قوات الحكومة السورية أحياءها التي يسيطر عليها الثوار، رغم شعوره بالعجز.
وقال “إنَّ سوريا كالكابوس الذي يسافر معي أينما ذهبت، قد أكون جالساً هنا لا أفعل شيئاً وأعرف فجأةً أنَّ شخصاً أعرفه قد مات”.
تابعت وكالة أسوشيتد برس محمد في صيف 2015 خلال رحلته الشاقة من تركيا، حيث عاش مع أسرته منذ فرارهم من سوريا، عبر البحر إلى اليونان، ثم مروراً بالبلقان وصولاً إلى ألمانيا.
في أغسطس/آب، زارته أسوشيتد برس ثانيةً في مدينة ساربروكن الألمانية. هزَّ أوروبا فيضان اللاجئين على مدار العام الماضي بعمق.
تعاني الحكومات لفهم كيفية استيعاب القادمين الجدد. وفي حركة ارتجاعية، اكتسبت الأحزاب القومية اليمينية أرضاً جديدة. وأجَّجت سلسلة الهجمات الإرهابية رهاب الأجانب وارتياب اللاجئين أكثر.
ولكن بدَت تلك العواصف لمحمد بعيدة. إذ أخذ يركِّز على بناء مستقبله بدلاً من ذلك، بينما ما زال مستغرقاً في الاضطرابات في وطنه.
خلال رحلة محمد عبر أوروبا العام الماضي، كان على الشاب أن يكون سريع البديهة، وفي انتباه دائم لأي فرصة للوصول إلى المرحلة التالية من رحلته، مروراً بالبيروقراطية وحرس الحدود العدائيين، والطقس القاسي. ولائم هذا طبيعته المتحمِّسة للإنجاز.
عليه الآن الاعتماد على الصبر والمهمة البطيئة المحبِطة، مهمة انتظار تحقيق أهدافه.
يتقاسم شقةً بسيطة الحال ذات حجرتين مع ثلاثة رجال سوريين آخرين التقاهم في المخيم الذي سكنوه عندما وصلوا إلى ألمانيا.
هناك القليل من الأثاث، قد منحهم إياه الأصدقاء والمعارف الألمانيون. في حجرة المعيشة، هناك مقعدان بأذرع وطاولة قهوة فقط. لا يملك أي منهم سريراً. ينام محمد على فراش على الأرض في حجرة صغيرة يتشاركها مع أحد الرجال الآخرين. يعلِّق ملابسه على الحائط، فليست هناك خزانة ملابس.
في المطبخ أطباقٌ ساخنة، وفرنٌ صغير، وثلاجة. وعلى الطاولة ما يوجد على الأرجح في أي منزلٍ سوري: زيت الزيتون، زيتون، زعتر، وخبز بلدي.
هناك سبورة سوداء معلَّقة على الحائط، ورسم أحد رفقائه في السكن عليها خريطة سوريا يعلوها علم المعارضة السورية.
يتلقَّى محمد إعانة حكومية شهرية قدرها 370 يورو (400 دولار أميركي)، ويُدفَع إيجاره وفواتير الخدمات ومدرسة اللغة نيابةً عنه. وهو ممتنٌ لهذا، ويقول إنَّ ألمانيا “قد فتحت لي بابها ومنحتني كل ما أملك”.
المال بالكاد يكفي
ولكن ما زال المال بالكاد يكفي. فنادراً ما يأكل بالخارج، أو يجلس في مقهى، أو يذهب لمشاهدة فيلم. لديه سروال جينز واحد، وحذاء واحد. ويتسوَّق في المتاجر التي تقدِّم خصومات. لا يمكنه زيارة أصدقائه السوريين الذين سُكِّنوا في مناطق أخرى في ألمانيا بسبب غلاء المواصلات العامة الشديد.
هناك الكثير من مئات الآلاف من المهاجرين واللاجئين الذين تدفقوا إلى داخل ألمانيا في موقفٍ مشابه. في عام 2015، تقدَّم 477,000 لاجئ على الأقل -أكثر من 160,000 منهم من السوريين- بطلبات اللجوء، وتقدَّم بها 310,000 آخرون هذا العام حتى الآن.
يكافح البلد كي يستوعبهم داخل اقتصاده. وجد حوالي 33,000 لاجئ حتى الآن وظائف منذ أوائل 2015، ومعظمها في العمل الخدمي مثل التنظيف والحراسة الأمنية.
ينصبّ تركيز محمد الآن على تعلُّم الألمانية. لا يمكنه الحصول على وظيفة لائقة دون شهادة في اللغة، ودونها أيضاً سيكون طموحه الأساسي في دخول الجامعة مستحيلاً.
يحضر فصول اللغة الألمانية في الصباح خمسة أيام أسبوعياً. يسير الطريق إلى معهد اللغة الذي يستغرق 25 دقيقة غالباً لتوفير أجرة الترام. ويأخذ معه قارورة من القهوة المنزلية لتجنُّب شرائها من المقاهي.
بعد أربعة أشهر من الدراسة، وصل إلى المستوى الثالث من ستة مستويات، ويستطيع الآن إجراء المحادثات بالألمانية جيداً نوعاً ما.
قال إنَّ الألمانية صعبة. يستسلم لاجئون آخرون لعدم تعلُّمها ويشغلون وظائف لا تحتاج إلى مهارات أو يحاولون حتى مغادرة ألمانيا والذهاب إلى دولة عربية.
ولكنَّه أضاف أنَّ “هؤلاء الذين يفكِّرون بهذه الطريقة قد جاءوا إلى هنا دون أن يكون لديهم هدف. عليَّ أن أكون صبوراً”.
في يوليو/تموز، علِم محمد بأحدث حالة وفاة بين أصدقائه.
استيقظ صباحاً، تصفَّح موقع فيسبوك ورأى أنَّ طارق البيومي، أحد قادة الثوار، قد قُتِل بفعل ضربة جوية خارج حلب. قال إنَّه قد شعر وكأنَّه طُعِن في قلبه.
وأضاف: “ولكنَّني لم أبكِ، لقد نفدت دموعي صدقاً”.
كان البيومي خامس قتيل من أصدقاء طفولة محمد، الشباب الذين لعب معهم في شوارع حيِّه عندما كان طفلاً. ويقدِّر من ماتوا من دائرة أصدقائه ومعارفه الأوسع بـما بين 20 إلى 25 شخصاً، أو هؤلاء هُم من يعرف بشأنهم على الأقل.
لقد عاش محمد حياته بأكملها في حلب، التي كانت يوماً ما أكبر مدن سوريا وأكثرها تنوعاً. في أيام الحرب الأولى، كان متطوعاً في مستشفى في حلب، حيث التقته أسوشيتد برس للمرة الأولى عام 2012.
بحلول يونيو/حزيران، ويوليو/تموز من العام الحالي، بدا الوضع وكأنَّ المعارضة في حلب على وشك الانهيار. إذ قطعت القوات والميليشيات الموالية للرئيس بشار الأسد كل الطرق المؤدية إلى مواقع الثوار.
كان محمد يشاهد كل لحظة
قال محمد إنَّ كل أولئك الذين يسكنون مناطق المعارضة -حوالي 300,000 شخص- “هُم أهلي”. خشي أن يلقوا نفس مصير أولئك الذين يسكنون البلدات الأخرى التي تحاصرها القوات السورية، مثل داريا، خارج دمشق، حيث لجأ السكَّان إلى تناول الأعشاب.
استمر في العودة إلى هاتفه لمتابعة الأخبار. تأثرت دراسته. فقال “كنتُ حزيناً، فقدتُ تركيزي.. كنت قلقاً أن يتضور الناس جوعاً”.
ممَّا يصعِّب الأمور، أنَّه شعر أنَّه لا يستطيع الاتصال بأصدقائه أو أقاربه الذين ما زالوا في حلب.
إذ قال “كيف يمكنني أن أكون آمناً في ألمانيا وبعيداً جداً عن الوطن، وأتصل بأحدهم في حلب لأسأله عن أحواله؟ لن يرد سوى بـ (الحمد لله)، ولا شيء آخر. سيجيبني بهذه الإجابة لأنَّه يعرف أنَّه قد يموت بعد خمس دقائق”.
ثم في بداية أغسطس/آب، فكَّ المقاتلون الثوار الحصارَ. وقال محمد “كانت هذه فرحة رائعة. إذ انتصرت قوة الإيمان”.
لم تدُم هذه الفرحة. ففي الأسابيع التي تلتها، قُتِل المئات في حلب في قصف مستمر للأحياء التي يسيطر عليها الثوار.
يزعج محمدَ رفاقُه في السكن بشأن مدى متابعته للحرب عن قرب. وهو يفهم ذلك، ويفسِّره، فهُم قد ضاقوا بالحرب.
وأضاف “لقد تحطَّمنا وعجزنا، نحنُ كشعبٍ. يعاني كلٌ منَّا فاجعة ما.. في ألمانيا، عندما يتعثَّر طفل، تدفعنا إنسانيتنا إلى مد يد المساعدة. لذا، يمكنك تخيُّل رؤية أب سوري طفله يتمزَّق إلى أجزاء جراء القنابل”.
في يومٍ نادرٍ خرج فيه محمد، ذهب وأحد أصدقائه لتناول الغداء في المركز التاريخي في ساروليس، شمال ساربروكن. ولكن بمجرد أن جلسا في المطعم، بدأ النادل الألماني يرفع أدوات المائدة وكؤوس النبيذ والأطباق من الطاولة، في جوٍ ملحوظ من العدائية.
أخبرهما بطريقةٍ فظّة أنَّ الغداء قد انتهى وحان وقت راحة الخدم.
قال محمد أثناء قيامه وصديقه للبحث عن مكانٍ آخر لتناول الطعام “كان يمكنه أن يخبرنا بذلك بطريقة أكثر ودية. كان يمكنه أن يقول (نأسف ولكن المطعم مغلق الآن) ويخبرنا بميعاد إعادة فتح المطعم”.
هل كان وقحاً لأنَّهما عربيان؟
هزَ محمد كتفيه وقال “ربما كان النادل متعباً أو مضغوطاً. ربما كانت لديه مشكلة. على أي حال، لا يمكنك الحكم على شعب كامل من سلوك فرد واحد فقط”.
وأضاف أنَّه لم يلتقِ بعد بالعنصريين وكارهي الأجانب “أعرف بوجودهم، ولكنَّني لم ألتقِ أحدهم بعد”.
“أقسم بالله أنَّني أرى الألمان شعباً جميلاً، فهُم يبتسمون ويضحكون دائماً، وهُم جديرون بالاحترام”.
وتذكَّر الوقت الذي مكثه في تركيا، وقال إنَّ الأتراك يعاملون العرب بطريقةٍ عنصرية، فهُم “ينظرون إلينا بتعالٍ”.
وأضاف “في تركيا، عندما لا يفهمونك، يبدأون بالصياح والصريخ”. ولكنَّه إذا تحدَّث بألمانية ضعيفة إلى شخصٍ ألماني، يبدأ في استخدام لغة الإشارة و”يحاول المساعدة بقدر استطاعته”.
بينما كان محمد يتحدَّث إلى أسوشيتد برس، مساء إحدى نهايات الأسبوع في ساربروكن، مرَّ رجلان ألمانيان، عاريان تماماً.
لم ينزعج محمد. وأوضح أنَّ هناك مجموعة من الأناركيين في المدينة، الذين يتجولون عرايا أحياناً.
وقال إنَّهم “يحيون ليشربوا ويدخِّنوا الماريغوانا ويستمعوا إلى الموسيقى”.
هناك أشياء اضطُر إلى اعتيادها. لا يخلع المرء حذاءه عند دخول منزل شخص ألماني، كما يفعل في سوريا. ولا يزور شخصاً زيارةً غير متوقَّعة، ولا يتصل بشخصٍ ألماني بعد الساعة 10 مساءً أبداً. فقال “هناك قدر كبير من احترام الخصوصية”.
ولكن مع حسّ القانون والنظام، قال إنَّه يشعر أنَّه مساوٍ للألمان. وذكر أنَّ الشرطة تعامل الناس “باحترامٍ، لا كما تعاملهم في العالم العربي حيث تهين المرء وتضربه”.
قال اثنان من رفقاء محمد في السكن، وهُما محمد زلط ومازن العلي، إنَّ أصدقاءهما الألمان نصحوهما بعدم مغادرة المنزل يوماً أو يومين بعد واقعة اعتداء جنسي جماعي على النساء في كولونيا عشية رأس السنة الماضية.
ولكن محمد قال إنَّه لم يغيِّر نظامه اليومي. يكون همَّه الأول دائماً هو ما إذا كان المعتدون سوريين “فعندما أعرف أنَّهم ليسوا سوريين، أرتاح”.
وقال “في الحقيقة، أخشى على حياتي هنا مثل الجميع، أخشى أن يؤذيني انفجار ناتج عن هجوم إرهابي في الشارع”.
يتحدَّث محمد كل بضعة أيام إلى والديه في تركيا عبر تطبيق واتسآب.
في كل جملةٍ تقريباً يقولون “إن شاء الله” أو “الحمد لله”. إنها عبارات عربية عامة مطمئنة وفي نفس الوقت مبهمة على نحوٍ دبلوماسي.
فهي وسادة واقية تتيح للآباء والابن تجنُب إثقال كواهل بعضهم بعضاً بالصعوبات التي يواجهونها، في محاولةٍ لمنع كلٍّ منهما عن القلق بشأن الآخر.
“متى ستعود إلى المنزل؟ لقد أعددتُ لك المكدوس” تقول والدة محمد ذات الخمسة وخمسين عاماً، مشيرةً إلى وجبة سورية مشهورة تتكون من الباذنجان المخلل المحشي بالجوز المغطَّى بالزبادي.
كانت تمزح، فهي تعلم جيداً أنَّ ابنها لا يستطيع الذهاب إلى تركيا في الوقت الحالي.
أجابها محمد “سأعود قريباً، إن شاء الله”.
أخبرته أنَّها ووالده البالغ من العمر 65 عاماً قد عادا للتو من السوق وجرَّا عشرة كيلوغرامات (22 رطلاً) من الطماطم عبر ستة طوابق وصولاً إلى شقتهما.
سيجفِّفان الطماطم في الشمس كي يستخدمانها في الشتاء، عندما يرتفع سعرها.
أفزع هذا محمد، ولام والده برقةٍ “لماذا تحمل 10 كغم من الطماطم؟”
منذ انتقل والداه إلى شقة جديدة في إزمير في الطابق السادس بدون مصعد، أصبح يقلق. يمزح والده كلَّما أثار محمد الأمر بأنَّه تمرين مفيد له.
قال محمد “يعذِّبني هذا كلَّما يقوله”.
هافنغتون بوست