ما إن سقطت دولة الخلافة العثمانية، كإحدى نتائج الحرب العظمى/ العالمية الأولى (1914-1918)، حتى سقط معها العرب في مستنقع سايكس- بيكو، بعد أن تبدّد حلم الثورة العربية الكبرى في إحياء الخلافة العربية، ذلك الحلم الذى باعته بريطانيا العظمى للشريف حسين بن علي، شريف مكة ووالي الحجاز، حتى يدعمها في حربها ضد الدولة العثمانية، وتصفية ما بقى من وجود ونفوذ عثماني في العالم العربي.
كان لا بد من إيجاد قضية جديدة للعرب، ينشغلون بها، بدلا من انشغالهم بحلم دولة الخلافة العربية، وكانت القضية جاهزة بالفعل، وهي قضية فلسطين، والتي بدأ على الفور تفعيلها بصدور وعد بلفور (أو تصريح بلفور)، وهو الاسم الشائع المطلق على رسالة وزير خارجية بريطانيا آرثر جيمس بلفور، بتاريخ 2 نوفمبر 1917 إلى ممثل الوكالة اليهودية، اللورد ليونيل وولتر دي روتشيلد، يشير فيها إلى تأييد الحكومة البريطانية إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين. وحين صدر الوعد، كان تعداد اليهود في فلسطين لا يزيد عن 5% من مجموع عدد السكان.
وقد أرسلت الرسالة قبل شهر من احتلال الجيش البريطاني كل فلسطين التاريخية بعد دخول الجنرال اللنبي مدينة القدس، على رأس قواته في 9 ديسمبر/ كانون الأول 1917، ويطلق المناصرون للقضية الفلسطينية على ذلك الوعد عبارة “وعد من لا يملك لمن لا يستحق”، والذي أقر بحق اليهود في إقامة وطن قومي في فلسطين، وتعهد بريطانيا بدعمهم في ذلك. وأعقب ذلك في يوليو/ تموز 1920 إعلان بريطانيا وضع فلسطين تحت الانتداب، ثم مصادقة عصبة الأمم على ذلك في سبتمبر/ أيلول 1922، وكانت الحجة هي العمل على تحقيق وعد بلفور وإقامة الوطن القومي لليهود.
ومنذ ذلك الوقت، أصبحت قضية فلسطين الشغل الشاغل للعرب، حكاماً وأنظمة وشعوباً، ومع تطور القضية، من وعد بلفور وحتى صدور قرار التقسيم في نوفمبر/ تشرين الثاني 1947، إلى إعلان قيام دولة العدو الإسرائيلي في مايو/ أيار 1948، والاعتراف الدولي بها إلى جولات الصراع العسكري من حرب فلسطين الأولى 1948، وحتى حرب أكتوبر 1973، ثم ما يُعرف بعملية السلام التي أسفرت حتى اليوم عن معاهدتين للسلام بين العدو الإسرائيلي، وأهم دولتين عربيتين من دول الطوق، مصر في 1979، والأردن في 1994، وكانت قد سبقتها اتفاقية هلامية مع منظمة التحرير الفلسطينية (اتفاق أوسلو) في عام 1993، والتي جمّدت نشاط منظمة التحرير وفصائلها، وحولتها إلى مجرد سلطة حكم ذاتي منزوعة السيادة.
طوال تلك السنوات، كانت “قضية فلسطين” تُعرف بأنها قضية العرب الأولى، والمركزية، وكان شعار تحرير فلسطين شهادة الاعتماد للزعامات والقيادات العربية، ونظم الحكم بأنواعها المختلفة، والتي نجحت في تحويل ذلك الشعار، تحرير فلسطين، إلى الحلم الذي يداعب وجدان كل عربي من المحيط إلى الخليج.
وعلى مدى 68 عاماً، منذ عام النكبة في 1984، شهد العالم العربي عشرات الثورات، والانقلابات، وصعود زعاماتٍ من الجنرالات، وغير الجنرالات، ومواكب من المفكرين، والأدباء، والشعراء، والفنانين، وأيضاً المئات من الباحثين، والأكاديميين، والجامعات، ومراكز الدراسات، والمئات من الأطروحات العلمية لنيل درجات الماجستير والدكتوراه، وكلها ترفع شعاراً واحداً، وتدّعي هدفاً واحداً، تتخذه مبرّراً لوجودها، وهو تحرير فلسطين. وازداد تعداد الشعب العربي من أقل من مئة مليون إلى أكثر من ثلاثمئة مليون نسمة، وتضخّمت جامعة الدول العربية من سبع دول إلى 22 دولة. وعلى الرغم من ذلك كله، تمكّنت الوكالة اليهودية التي بدأت تنفيذ فكرة إقامة الوطن القومي لليهود، من تكريس وجود الدولة العبرية التي احتلت كل أرض فلسطين التاريخية من البحر إلى النهر، وأراضي دول عربية أخرى، وفرضت وجودها على الجميع.
وتوقف العرب، أخيراً، عن استخدام شعار تحرير فلسطين، وأزالوا اللافتات التي تحمله، وأرسلوا الوفود الرسمية، وغير الرسمية، للمشاركة في تشييع جثمان من يفارق الحياة من الآباء المؤسسين للكيان الصهيوني الذي استولى على كل فلسطين وحولها إلى دولة إسرائيل، كما حدث، أخيراً، في مشهد جنازة شيمون بيريز، صاحب فكرة المشروع النووي الإسرائيلي، والشريك الإسرائيلي في التخطيط للعدوان الثلاثي على مصر، وصاحب أول قرار بإقامة مستوطنات يهودية في الضفة الغربية، وقائد مجزرة قانا، وممن يُطلق عليهم الآباء المؤسسون للدولة العبرية.
كان لا بد من التوقف طويلاً أمام مشهد المواساة العربية في موت أحد مؤسسي الكيان الصهيوني على أرض فلسطين الذي يحمل اسم دولة إسرائيل، والربط بينه وبين مشاهد أخرى تجري في عالمنا العربي، وليست بعيدة عن مدينة القدس التي وقع فيها ذلك المشهد، آخرها مشاهد التدمير التي تقوم بها القوات الروسية الداعمة لبشار الأسد لمدينة حلب في سورية، ومشاهد الإعداد والاستعداد للجيوش والحشود العسكرية، من عرب وكرد وترك وفرس، التي تتأهب لتحرير مدينة الموصل العربية في العراق من قبضة تنظيم الدولة الإسلامية، وحرب عربية – عربية في اليمن، وانقسام عشائري في ليبيا، وتصدّعات مجتمعية، واستقطابات، وأزمات، ومخاطر نشاط تنظيم داعش المسمى ولاية سيناء في مصر، وحالة من القلق العام، والضبابية، وعدم اليقين، تسود كل بلدان العالم العربي، حتى أننا لم نعد نعلم يقيناً من هو العدو، ومن هو الصديق، في زمنٍ يقف فيه رئيس وزراء العدو الإسرائيلي على منصّة الأمم المتحدة
ليشيد، بكل “بجاحة”، بعلاقات التعاون والصداقة مع أكبر دولةٍ عربيةٍ، وصاحبة الريادة في رفع شعار “تحرير فلسطين”، وهي مصر، بل ويدعى بالقدر نفسه من “البجاحة” أن إسرائيل والعرب ليسوا أعداء، بل لهم عدو واحد هو إيران. والأهم أنه، وعلى الرغم من كل تلك “البجاحة” والصلف، لم يخرج صوت عربي واحد للردّ عليه. ولكن، خرجت أصوات توجه نداءاتٍ له ولشعبه، تناشدهم مد يدهم بالسلام للشعب الفلسطيني.
قبل مائة عام، رفع العرب شعار الثورة العربية الكبرى، من أجل التخلص من السيادة العثمانية، واستعادة العرب دولة الخلافة الإسلامية، وانتهى الأمر بأصحاب ذلك الشعار، وهم الشريف الحسين بن علي وأولاده، إلى تولى أحد الأبناء (فيصل) عرش العراق، وتولى الآخر (عبد الله) إمارة صغيرة شرق نهر الأردن، وكلاهما تحت النفوذ البريطاني. أما باقي العالم العربي، فجرى عليه ما قرّرته اتفاقية سايكس – بيكو الشهيرة، وما تبعها من تفاهماتٍ، من تقسيمه إلى دويلاتٍ قوميةٍ، على رأسها ملوك وأمراء ومشايخ وحكام أطلقوا على أنفسهم لقب “زعماء”، وكلها خاضعة للانتداب أو الاحتلال أو النفوذ البريطاني، وانتهى شعار “الثورة العربية الكبرى” ومعه حلم دولة الخلافة العربية.
ومنذ 68 عاما، عندما تم إعلان قيام دولة إسرائيل، رفع العرب شعاراً آخر هو “تحرير فلسطين”، من أجل القضاء على “العصابات الصهيونية” التي اغتصبت الأرض العربية، وانتهى الأمر بضياع كل فلسطين. واليوم تحول العرب من السعي إلى تحرير فلسطين، إلى السعي إلى تحرير سورية، بل وتحرير العراق، وتحرير كل بلد عربي، من الاحتلال الأميركي، والاحتلال الروسي، والذي يمهد الطريق لتسليم زمام العالم العربي لثلاث قوى إقليمية غير عربية، على الرغم من اختلاف توجهاتها، هي إيران وتركيا وإسرائيل.
علينا أن ندرك أن تحرير فلسطين، وكل الأمة العربية، لن يتحقق إلا بتحرير إرادة الشعوب العربية من قهرٍ طال مداه على يد طغم حاكمة، لا ترى أبعد من كراسي الحكم، وأبّهة السلطة وهيلمانها.
العربي الجديد – عادل سليمان